دمشق أقدم مدينة في العالم تحقيق أثري تاريخي ـــ د.عفيف البهنسي
حدود مدينة دمشق اليوم تبتدئ من سفوح قاسيون حتى البادية يفصلها شريط أخضر يسمى (الغوطة)، ويروي هذه المدينة نهر بردى (قرقر) بأقنيته التي توزعت على مصاطب المدينة من الغرب إلى الشرق لتروي المدينة بجميع مناسيبها، ولتروي الغوطة المحيطة بها، ثم يصب ببحيرة الهيجانة في أقصى الغوطة. وأقدم ما ورد من حديث عن هذا النهر يعود إلى الألف الأول قبل الميلاد(1).
ولكن ليس من السهل وضع حدود ثابتة لمدينة دمشق قبل التاريخ، ذلك أنه ليس من أثر لأي أسرار تساعدنا على ذلك.
هناك رأي سائد عند المؤرخين(2) هو أن دمشق هي أقدم مدينة مازالت موجودة في العالم. ويرجح المؤرخ القديم يوسفوس تاريخ إنشائها إلى عهد عز ابن آرام بن سام بن نوح، وهو افتراض توراتي، ولكن البحث الأثري لا يخضع لتاريخ الأنساب.
إن أقدم ما تؤكدهُ الدراسات التاريخية، إن دمشق في العهد الآرامي (الألف الأول قبل الميلاد) كانت متوضعة في شرقي المدينة. وأن المعبد الآرامي (معبد حدد) كان في موقع الجامع الأموي اليوم، هذا الموقع الذي احتل مكان المعبد الروماني (معبد جوبيتر)(3).
والإله حدد رامان هو إله الرعد والخصب، ومن المعتقد أنه كان يعبد في هذا المكان المقدس، بدلالة العثور على لوح بازلتي (سنة 1940) عليه نقش بارز يمثل أبا الهول، لعله يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد.. وهذا اللوح محفوظ في المتحف الوطني بدمشق.
لقد توقع الباحثون وجود آثار آرامية في منطقة (السمّاكة) قرب الباب الشرقي للمدينة، ولكن لم تجر تنقيبات أثرية بعد هناك. على أن الآثار الرومانية لا تخفي نفسها(4). ويرى سوفاجيه أن المنطقة التي تسمى البريص أي الحصن، تحوي آثار قصر أنطوخيوس الرابع الذي حكم دمشق في نهاية القرن الثاني ق.م، بل إنه يعتقد أن هذا القصر، أنشئ على أنقاض قصر آرامي.
وهكذا فإن المحور الأساسي للمدينة كان في ذلك الوقت وحتى العهد الروماني يمتد من القصر في تل السماكة وحتى المعبد في موقع الجامع الأموي. بيد أن الوثائق المكتوبة لم تتحدث عن مدينة دمشق في منتصف عصر البرونز، وفي القرن التاسع والثامن قبل الميلاد ابتدأ اسم دمشق بالظهور. ولكن هذا لا يعني أن دمشق ابتدأت منذ ذلك التاريخ، إذ ورد اسمها (دامسكي) في وثائق ايبلا التي تعود إلى عام 1230ق.م.
وثمة دراسات استقرائية تتم اليوم للبحث عن تاريخ دمشق قبل العهد الآرامي، من خلال اسم آخر يعتقد أنه كان يطلق على هذه المدينة هو (آبوم)(5).
لقد ورد اسم دمشق في ألواح تحوتمس الثالث، فرعون مصر بلفظ، تيماسك مع أسماء المدن التي احتلها، ونقش ذلك على جدران معبد الكرنك في الأقصر (القرن 14 ق.م). وورد هذا الاسم ذاته في ألواح تل العمارنة التي كانت ترد من دمشق، لقد قرئت هكذا؛ دمشقا، أو دومشقا أو تيماشكي. وفي حفريات كميد اللوز في لبنان، عثر على رسالة موجهة إلى ملك تامشقا واسمه (زالايا). وفي التوراة ورد الاسم هكذا دامّيسيك ودومّيسيك ودارميسيك وفي نصوص آشورية حديثة ورد الاسم، دمشقا أو دمشقي أو دمشقو. وفي الكتابات الآرامية القديمة ورد الاسم كما نعرفه اليوم (دمشق)(6) وفي وثائق ايبلا ورد الاسم (دامسكي) كما يقول بيتسيناتو.
(إن هذا الاسم، كما يبدو، مؤلف من مقطعين الأول (دو) أو (دا) وهي تعني اسم الإشارة ذو أو ذا، أو دار وتعني موقعاً حصيناً. والمقطع الثاني (ميسيك) وهي كما يبدو مشتقة من (سقي) كما يقول هوبت(7) وهكذا تعني التسمية دارميسيك الأرض المسقية.
ويرى أولبرايت( إن كلمة ميسيك هي أصل الكلمة العربية (الشق) وتعني الحجر الجصّي، وأن التسمية دومشق تعني (ذو الحجر الجصّي)، ويؤكد سوفاجيه هذا الرأي.
لقد أبانت الدراسات أن مملكة آبوم كانت قائمة في الألف الثاني قبل الميلاد، وتلتها مملكة آرام في الألف الأول. ولقد ظهر اسم آبوم لأول مرة في وثائق سقارة في مصر، وكان أولبرايت أول من حدد موقع آبوم في دمشق(9). ولقد ظهر هذا الاسم أيضاً في ألواح تل العمارنة في شكلين(آ بي) و (أوبي) و (بي) كما ظهر في النصوص الحثية (آ بى) أو (آبا). ويبرر هذه التحولات اللفظية، اختلاف اللهجات والألسنة والقراءات، ولكن أولبرايت يفضل استعمال اسم ابوم ويعني (القصب الكثيف) وهذا الاسم ينسجم مع هذا النبات المعروف في غوطة دمشق..
وخلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، انتشر اسم (آرام) أو مملكة آرام وعاصمتها دمشق، وتعني كلمة آرام (الأعالي)، ولقد أطلق على مناطق أخرى مثل آرام صوبا وآرام بيت رحوب وآرام النهرين وهي ممالك آرامية، ولكن اسم آرام كما ورد في النصوص يعني فقط دمشق. وعند الدلالة على جميع الممالك الآرامية فكان يطلق اسم (كل آرام)، كما هو الأمر في لوح سفيره، وعندما يطلق اسم ملك آرام فإن هذا يعني ملك دمشق كما ورد في نقش يعود إلى القرن التاسع ق.م.
ولم يستعمل الآشوريون كلمة دمشق، بل استعملوا اسم (ايميري شو) أو (شا ايميري شو) أي مدينة الإله حددايميرى، أو تعني دمشق باللهجة الآشورية.
لقد ورد اسم ايبوم مقروناً بكلمة (الحك وتعني حاكم ايبوم، (حك ايبوم) وكان اسمه (آحوكبكابو).
وهناك احتمال كبير أن مركز هذه المدينة هو تل الصالحية الذي أجريت فيه تنقيبات(10) وتم العثور على آثار أسوار محيطة تعود إلى منتصف عصر البرونز، ترتفع أكثر من ثلاثة أمتار وهي مبنية من الطين.
وتمتاز الصالحية بموقعها المشرف على ضفاف فروع بردى وهي مركز استطلاعي هام يساعد على مراقبة المواصلات باتجاه تدمر وقطنه.
وحسب رأي العالمة الأثرية جارود أن دمشق تعود إلى العصر الآشولي الحجري الذي يعود إلى مئات ألوف السنين، وكانت مأهولة جداً بالسكان، وبخاصة في المرتفعات المحيطة بها وعلى شطآن نهري بردى والأعوج، ذلك أن حوض دمشق، كان بحيرة كبيرة كما تأكد للعالم فان ليره.
وفي الواقع، لقد عثر عام 1930 على بقايا عظام وظران تعود إلى العصر الآشولي في موقعي وادي شركس والأشرفية. كما عثر على أدوات حجرية في حوض نهر بردى وفي برزه حول دمشق، وهي تعود إلى هذا العصر. كما عثر على أدوات تعود إلى العصر اللافالوازي والموستري في المزة والهامة(11) وهي عصور حجرية قديمة تعود إلى آلاف السنين.
على أن العصر الحجري الحديث الذي يبتدئ من الألف التاسع قبل الميلاد هو أكثر وضوحاً في مدينة دمشق وضواحيها. فلقد قام العالم دوكونتسانسون بالتعاون مع مديرية الآثار بإجراء تنقيبات وأبحاث بين عامي 1960- 1975 في تلال محيطة بدمشق، اثنان منهما في شرقي المدينة جنوبي بحيرة العتيبة وهما تل أسود، وتل الغريفة، وتل ثالث في غربي المدينة (طريق سعسع) هو تل الرماد، وتعود هذه التلال الثلاثة إلى بداية العصر الحجري الحديث أي إلى الألف الثامن ق.م. أو الألف السابع ق.م.
لقد قدمت لنا مكتشفات تل أسود شواهد هامة رغم ضآلتها، فلقد تبين شكل العمارة في العصر الحجري الحديث، والمؤلفة من بيوت من القصب والأغصان والطين، كما عثر على تماثيل طينية صغيرة لأشكال آدمية أو حيوانية، وعلى عدد من الجماجم، وثمة هيكل عظمي لطفل صغير.
وفي موقع الغريفة، عثر عام 1974 على آثار جدار مبني من الطين، وتأكد أن المنشآت كانت مدعمة أيضاً بقضبان القصب، وثمة إناء طيني وتماثيل أثبت الفحص بالفحم 14، أن هذا الموقع يعود إلى منتصف الألف السابعة.
أما موقع تل الرماد، فلقد استمرت التنقيبات فيه زمناً أطول بلغ عشر سنوات أي من عام 1963-1973، وفيه تم اكتشاف آثار مستوطن سكني، وكانت المنازل بأبعاد 3×4م، وكانت الجدران مرفوعة من الطين المدكوك. كما عثر على أفران وعنابر أنشئت أيضاً من الطين وطليت بالجص. ومن أهم المكتشفات جماجم مطلية ومزخرفة بالجص، تشابه تلك التي عثر عليها في أريحا (فلسطين)، وتماثيل طينية صغيرة، وحوامل طينية للجماجم التي كانت تعرض في البيوت تكريماً لأصحابها، وهذا يدل على سريان عادة عبادة الأجداد، وعلى الأقل احترامهم وتكريمهم، كما عثر على أوانٍ فخارية مصقولة ومحزّزة.
وتأكد للمكتشفين(12) أن الإنسان القديم في هذا الموقع، كان يمارس الزراعة، فلقد عثر على حبوب متفحمة متنوعة. وكان يمارس القنص للحصول على اللحوم، وكان يربي الحيوانات كالأبقار والماعز. ولقد عثر على أدوات حجرية على شكل فأس ومنجل وحربة سهم.
ويرجع تل الرماد –بحسب تحديد الفحم- إلى منتصف الألف السابع أيضاً. وهذا يعني أن هذه التلال الثلاثة، كانت تشكل مواقع سكنية متكاملة حول البحيرة، مبنية من الطين المدكوك نظراً لندرة الحجر والصخور، مما يجعلها مختلفة عن موقع أريحا المبني من الحجر والذي يعود إلى زمن معاصر، ومما يجعل هذا المستوطن الذي كان دمشق القديمة قديماً قدم أريحا، ولكنه استمر مأهولاً حتى الألف الرابعة ق.م.
أما تل حزامي (ويقع حيث مطار دمشق اليوم) القريب من تل أسود فإنه يعود إلى الألف الرابعة، وفيه عثر على آثار بيوت مستطيلة مبنية من الطين تضم عدداً من الغرف تنفتح الأبواب بينها.
وهذا يفسر تحول المدينة القديمة باتجاه موقع المدينة الحالية ولا ندري أين كان موقع مركز هذه المدينة وذلك بسبب التحولات التي تحدثها البحيرات وتشكيلاتها.
ولكن فان ليره ومن خلال كشوفه في تل الصالحية (في سفح جبل قاسيون)، وفي موقع الدرخبية على نهر الأعوج أكد استمرار وجود المدينة في بداية منتصف عصر البرونز، ثم تضاؤل هذه المدينة في نهاية عصر البرونز. وذلك بسبب عدم إرواء غوطة دمشق إرواءً مستقراً. وفي منتصف عصر البرونز تحمل اسم دمشق اسم مملكة آبوم التي تحدثنا عنها وكانت مسوّرة تضم مواقع متعددة، إذ كانت مدن أخرى قد أحيطت بالأسوار قبل ذلك العصر، مثل ماري (تل الحريري –على الفرات) ومثل يمحاض (حلب) وقطنه (الشرفه –حمص).
ومن المحتمل أن مركز هذه المملكة كان تل الصالحية المحاط بالأسوار كما ذكرناه. وكان هذا الموقع يسمح بربط مواقع أخرى مثل تل أسود والرماد والغريقة والتي تقع بين بحيرتي الهيجانة والعتيبة. هذه المواقع التي كانت ضواحي المدينة القديمة كما يبدو.
وهذا يعني أن دمشق اليوم كانت هي مركز هذه المملكة التي تحمل اسم ابوم أي الدغل أو القصب أو دغل القصب، هذا النبات المنتشر في الغوطة.
ويتحدث العالم دوسان الذي نشر ألواح ماري، عن ورود اسم آبوم في ألواح قصر زميري ليم في ماري(13) وعن ورود أسماء ملوكها (هايا بوم شار) و (زوزو شار معان) كما وردت كلمات (شارابوم) و (إويل ابوم) وأويل، وكلمة (شار) أو (أويل) تعني الملك أو الحاكم أو الرجل. كما عرفنا اسمين آخرين لملوك آبوم هما اريوانا وزالايا.
ويظهر اسم دمشق كدلالة على مركز آبوم بشكل (تميشك) و (تامسكو) في نقوش معبد آمون في الكرنك خلال عهد تحوتمس الثالث. ثم يظهر مرة ثانية في نقائش معبد طيبة خلال حكم امينوفيس الثالث. وفي رسائل تل العمارنة مقتطفات من معلومات تبين أن دمشق وأرض أو بي (أي آبوم) كانتا معاً تابعتين لمصر في عهد أخناتون.
وبعد عهد رمسيس الثالث (1166ق.م) استقلت دمشق عن أي تأثير مصري، وبرزت إلى الوجود كشخصية دولية متميزة ثم انتشرت منها الثقافة واللغة الآرامية.
وأول ظهور للآراميين كان فيما ورد في نقوش طيبة عند ذكر الحرب بينهم وبين الآشوريين بقيادة الملك تفلات بلاصر (1116-1076ق.م) في منطقة الفرات الأعلى والأوسط.
ظهرت مملكة دمشق الآرامية في القرن الحادي عشر ق.م، ثم أصبحت المملكة الأكثر قوة في الشرق في منتصف القرن التاسع ق.م وجابهت الآشوريين وصدتهم وكانت تمتد حدودها من بحيرة قطينة شمالاً وحتى بحيرة طبرية جنوباً. ولقد ورد اسم دمشق –آرام لأول مرة في عهد شلمنصر الثالث (853ق.م) الذي حاول الاستيلاء عليها، وكان ملكها حددايداري الذي صد العدوان وجعل مملكته في قمة الازدهار. وتابع ذلك الملك حزائيل الذي استولى على الملك ودافع عن بلاده في معركة جلعاد (841ق.م)(14).
لقد كان عصر حزائيل زاهراً، بلغت دمشق ذروة قمتها ونفوذها، ثم تراجعت في عهد بير حدد الثالث ثم في عهد الملك مرعي أي في الربع الثاني من القرن الثامن ق.م. وفي عهد ملك آشور تغلات بلاصر الثالث (745-727ق.م) ثم الاستيلاء على الممالك الارامية وعلى رأسها دمشق التي كانت تحت حكم الملك رصين (أوريدن) سنة 732 منه وتمكن أحد العلماء(15) أن يستقرئ قطعاً من الألواح الآشورية التي تتحدث عن هذا الاستيلاء ليحدد أبعاد هذه المملكة، مملكة دمشق فذكر مضمونها كما يلي "أنا ضممت إلى آشور، الأرض الواسعة التي تخص مملكة حزائيل والتي تمتد من مرتفع لبنان قريباً من مدينة جلعاد إلى مدينة بيت ملكا والتي تقع عند حدود بيت عمرى. ونصبت عليها حكاماً وقادة".
ولكن يبدو أن دمشق عادت إلى الظهور فلقد ذكرت النصوص أن جلعاد أصبحت آخر حدود دمشق –آرام. وفي عام 732ق.م تصبح دمشق عاصمة مقاطعة آشورية أطلق عليها (مرزبانه آسورا عربايا).
ولا تزال آثار دمشق الآرامية مخفية تحت الأرض. ولقد استطاع العالم سوفاجيه. أن يتصور أبعاد هذه المدينة الآرامية التي تقع تحت المدينة الحالية. وضمن حدود السور. وكانت شوارعها مشابهة للوضع الراهن. ويعتقد أن معبد حدد الآرامي كان أول معبد يقع في مكان الجامع الأموي الكبير، ويؤكد ذلك العثور عام 1965 على أحجار كبيرة تعود إلى العصر الآرامي وعلى تمثال بارز من البازلت يمثل أسداً مجنحاً يعتقد أنه يعود إلى العهد الآرامي، وذلك لشبهه بالأسود والأشكال الحيوانية التي تزين السرير العاجي الملكي الخاص بالملك حزائيل ملك دمشق الآرامي والذي عثر عليه في (أرسلان طاش) قرب عين العرب في شمالي سورية، وكان للمعبد مذبح شهير في إتقانه ودقة صنعه حاول تقليده الملوك الذين زاروا دمشق.
ومن المعتقد أيضاً أن القصر الملكي الآرامي يقع في تل السماكة الذي يرتفع عما حوله بمقدار خمسة عشر متراً. ولقد تحدثت الروايات التاريخية عن هذا القصر حيث اعتصم فيه ملك دمشق ضد غزوات الآشوريين وكان منيعاً ترف الزخرفة ولقد أوردت الوثائق التاريخية وصفاً لبعض التحف الفنية التي كان يحتويها مما غنمه ملك الآشور بعد حصاره دمشق عام 805ق.م وما غنمه فرعون مصر تحوتمس الثالث الذي غزا دمشق.
والآراميون هم من العرب الشماليين يتكلمون اللغة العربية الشمالية التي تسمى اليوم السريانية، وهي لهجة قديمة عاشت في وقت واحد مع لهجتين أخريين واحدة في العراق وهي الكلدانية وأخرى في الساحل وهي الفينيقية. والآراميون هم سكان دمشق الأصليين الذين استقبلوا الفتح الإسلامي بالفرح والدعم تخلصاً من سلطة الروم. ومازالت أسماء القرى المجاورة لدمشق وأسماء الأنهار آرامية محرفة حتى اليوم.
وبعد انتصار الإسكندر المقدوني على دارا الثاني ملك الفرس وامتداد سلطانه على بلاد الشام ومنها دمشق ابتدأ عهد الحضارة الكلاسية منذ عام 332ق.م وحتى عام 630م.
ألف عام تقريباً ودمشق تعيش تحت السيطرة السياسية الإغريقية السلوقية، والرومانية، ثم البيزنطية، ورغم قوة تأثير الثقافة الهلنستية، فإن دمشق وباقي المدن الشامية، لم تفقد شخصيتها القومية الثقافية، بل كان من رجالها قواد وشيوخ وحكماء وشعراء لعبوا دوراً في مراكز الإمبراطورية الرومانية أو في الإمبراطورية البيزنطية. ولم تكن دمشق عاصمة في ذلك الوقت، إلا لمدة محددة 114-95ق.م في العهد السلوقي ثم تصبح في العهد الروماني أيام الإمبراطور ديوقلسيان مركزاً لجيوش الرومان، وأصبحت في عهد أدريان من أمهات المدن. وحصلت على لقب ميتروبول أي مدينة رئيسية. وفي أيام الأسرة السورية من عائلة سيفيروس حصلت على لقب مستعمرة رومانية مما أكسبها بعض الامتيازات.
وكانت دمشق إحدى المدن العشرة (الديكابوليس) الأكثر أهمية في العالم الروماني، ومن آثار دمشق في العهد الروماني، معبد جوبيتر الذي مازالت آثاره واضحة حول الجامع الأموي الكبير، وبعض أبواب دمشق وأجزاء من سورها، وحسب تصور العالم سوفاجيه فإن المدينة محاطة بسور مستطيل الشكل طوله ألف وخمسماية متراً وعرضه سبعمائة وخمسون متراً تخترقه أبواب سبعة لكل باب اسم بحسب الكواكب السبعة، ولقد أطلق عليها فيما بعد اسم الباب الشرقي وباب الجابية وباب كيسان (أبو بوابة سان بول) والباب الصغير وباب توما وباب الجنيق وكان في الغرب، وباب الفراديس.
ويخترق المدينة من الباب الشرقي إلى باب الجابية الغربي طريق مستقيم، وإلى طرفيه أروقة محمولة على أعمدة كرونية جميلة، وكانت المخازن التجارية موزعة على طول هذا الشارع، الذي تم اكتشافه وتحديد أقسامه كما تم اكتشاف قوس النصر في منتصفه.
وفي شرقي المدينة يقع المعبد في مكان الجامع الأموي، وكان من أشهر معابد العالم القديمة، ولقد صمم ونفذ من قبل الدمشقيين، ومازالت أسوار المعبد الخارجية والداخلية وبعض الأروقة واضحة حتى يومنا هذا.
وتقوم ساحة الآغوارا شرقي المسجد فوق حي القيمرية اليوم (ساحة الدوامنة) أما قصر الحاكم فيقع جنوبي المعبد وإلى غربه المسرح، وهي كلها مخفية تحت الأرض يدل عليها الشكل العمراني للمنطقة.
ولقد أنشئت في عهد الرومان –القناطر المائية وتسمى اليوم القنوات، ويطلق على الحي والنهر المار عليها اسم القنوات.
وفي العهد البيزنطي حول هيكل معبد جوبيتر إلى كنيسة القديس يوحنا المعمدان وذلك في أواخر القرن الرابع الميلادي، كما نشأت كنيسة المصلبة في حي باب توما، وكنيسة المقسلاط وكنيسة مريم في باب شرقي حيث تقوم الكنيسة المريمية، التي وصفها ابن جبير، ومن الأديرة دير مرّان في سفح قاسيون ودير سمعان ودير النساء في منطقة الفراديس، وتذكر المصادر وجود قصر هرقل أو قصر شمس الملوك.ووجود قصر جلق ذكره البلاذري ويقع في منتصف الشارع المستقيم. وفي عهد الغساسنة كان في دمشق قصر كبير هو البريص الذي تحدث عنه الشاعر حسان بن ثابت، وكان العرب ينزلون فيه ضيوفاً على أمراء غسان.
استلم الأمويون الخلافة الإسلامية عام 661م. وكان عليهم أن يجابهوا عالماً مهزوماً كان العرب قد انتصروا عليه. وأن يتجاوزوا مستواه الحضاري فيقفزوا بسرعة من ظروفهم البدائية التي كانوا عليها في الجزيرة العربية إلى ظروف حضرية راقية. ولقد أثبت العرب من خلال تقدمهم أنهم أمة سريعة التطور والنمو، شديدة الطموح واسعة المقدرة، فلم يستريحوا ويقنعوا بالحياة الرخية التي كانت عليها بلاد الشام وسواد العراق، بل أخذوا يضاهون الواقع بمنجزات أفضل، ثم انطلقوا خارج هذه الحدود التي لم تكن سياستها وإدارتها بالأمر السهل، ومع ذلك استطاع معاوية أن يدير شؤون خلافة امتدت فشملت العراق والجزيرة والشام ومصر، هذه الأمصار التي مازال العرب اليوم، وبعد أكثر من ألف ومائة سنة يطمحون إلى إعادة وحدتها، فوطد الحكم ووضع له مبادئ راسخة سار عليها من خلفه من قادة الغُرّ، حتى إذا جاء عبد الملك بن مروان 685-705م بلغت دولة الشام أوج عزها ومجدها في عهده وعهد أبنائه الخلفاء الأربعة، فقد وصلت الدولة الإسلامية في عهد الوليد وهشام أقصى اتساعها، فامتدت من شواطئ الأطلسي وجبال البرنه غرباً، إلى نهر الأندلس وتخوم الصين شرقاً (وهو اتساع قل أن تجد له مثيلاً في العصور القديمة ولم تبلغه في العصور الحديثة إلا الإمبراطوريتان البريطانية والروسية).
ولقد كان على خلفاء بني أمية الذين حكموا هذه الإمبراطورية الواسعة التي تكونت خلال خمسين سنة من الدعوة المحمدية. ومن انطلاق العرب من جزيرتهم، أن يعززوا سلطانهم في بلاد الشام، فأقاموا المنشآت التي تدل على عظمة الحكم المسيطرة على هذه الرقعة الواسعة الأرجاء، مثل مسجد قبة الصخرة في بيت المقدس الذي أنشأه عبد الملك بن مروان يحدوه في ذلك رغبة إقامة مسجد ضخم يليق بأهمية الإسلام وعظمة دولة العرب ويضاهي في بهائه وفخامته الكنائس التي كانت قائمة في سورية وفلسطين.
كذلك أراد الوليد بن عبد الملك (705-715م) أن يخص المسلمين بمسجد كبير في دمشق وهو الجامع الأموي، الذي أصبح الآبدة الأكثر تعبيراً عن عظمة العرب وروعة الإسلام واتساع سلطانه.
كانت دمشق العاصمة في عهد الأمويين مؤلفة من أحياء وحارات تضم بيوتاً مغلقة يتوسطها فناء فيه حوض ماء ذو نافورة وفيه أشجار البرتقال والنارنج وأزهار الياسمين والورد، وحول الفناء غرف ينفتح أمامها رواق في المنازل الكبرى.
وقد نظم الأمويون في دمشق طريقة إروائها من نهر بردى، ومازال اسم يزيد بن معاوية مرتبطاً بأحد الأقنية وهي فرع من فروع بردى السبعة. ولكن مما لاشك فيه أن الخلفاء الأوائل الذين تربعوا على عرش هذه الإمبراطورية الواسعة كانوا قد حملوا معهم عاداتهم البدوية وحنينهم إلى الصحراء، فكانت أكبر منازلهم وقصورهم تقع بعيداً عن العاصمة، تأخذ أشكالاً بسيطة أو متطورة بحسب الظروف الجغرافية للمنطقة أو الظروف السياسية التي خضع لها الخليفة.
ويحدثنا المؤرخون عن السقايات الجارية وعدّد منها ابن عساكر عشرين يرجع أكثرها إلى العهد الأموي، ولقد شيدت الحمامات والفنادق. والقيساريات وهي أبنية تضم المهن بحسب اختصاصها.
وفي عهد الوليد أنشئت المشافي ودار الخيل وكان موقعها قرب قصر الخضراء.
ولقد توسعت المدينة فنشأت مراكز سكنية عرفت باسم منازل القبائل، والأرباض، ومن المنازل: الشاغور والميدان وقصر حجاج وعاليه وقنوات واللؤلؤة الكبرى، والصغرى، وصنعاء، والنيربان، وبيت لهيا، وبيت أبيات وأرزه ومقرى وحور تعلا والفردوس والسهم الأعلى والسهم الأدنى، والشرف الأعلى والشرف الأدنى. هذه المناطق التي أصبح بعضها بساتين، ثم لم تلبث أن أصبحت حديثاً، أحياء جديدة معمورة تدخل في أقسام مدينة دمشق الحديثة.
وكان في طرفي المدينة ميدانان كبيران الحصى في الجنوب والمرج الأخضر في الغرب.
وأنشئ في دمشق منذ عهد عبد الملك دار للبريد ودار لضرب النقود تسمى دار السكة وثكنات للجيش ودار للإمارة.
وفي عهد الفاطميين مع ذلك كانت دمشق جنة الدنيا وكان بظاهر دمشق، كما يقول المهلبي البهنسي المتوفي عام 990 للميلاد "وادي البنفسج تكسيره نحو أربعة أميال ونهر بردى يشقه والوادي كله مملوء بشجر السرو، لا تصل الشمس إلى أكثر أرضه. وأرضه كلها بنفسج متشج بعضه ببعض في نهاية الحسن، وبدمشق عدة من ألوان الورد فمنها أصفر أبريز وأسود وسماقي وورد موجه للورقة لونان من خارجها وداخلها، وليس للزهر على وجه الأرض ببلد أكثر منه بدمشق".
وثمة دار لعبد العزيز بن مروان وابنه الخليفة عمر، كانت قائمة مكان بناء المدرسة الشميساطية لصق الجدار الشمالي للمسجد الكبير. وقصر لهشام في مكان المدرسة المجاهدية.
وتفقد دمشق أهميتها في العصر العباسي بعد أن تنقل العاصمة إلى بغداد وتعرضت المدينة للإهمال، بل للدمار والحرائق عام 1065م.
وفي عهد الفاطميين تظهر بعض المنشآت التي ما تزال آثارها باقية منها محراب جامع فلوس وضريح السيدة فاطمة وضريح السيدة سكينة، وزال نهائياً قصر الولاة الذي أنشئ خارج الأسوار، وكان كحصن للوالي وحاميته هدم بعد أن قضى سكان دمشق على الأمير الفاطمي بدر الجمالي.
وتهفو قلوب الخلفاء العباسيين أحياناً إلى دمشق. يقول ابن عساكر: "لم يزل ملوك بني العباس تخف إلى دمشق طلباً للصحة وحب المنظر، أقام بها المأمون وأجرى إليها قناة من نهر منين إلى معسكره بدير مران وبنى القمة في أعلى جبل دير مران.
وازداد نسيج مدينة دمشق العمراني تكاثفاً، وظهرت الأحياء المستقلة المكتفية بسوقها وجامعها وبابها تغلقها لحماية سكانها. وبقي السور متهدماً فيها إلى عهد نور الدين، حيث تنفست دمشق الصعداء واتجهت إليها عناية السلطة.
لقد كان نور الدين مصلحاً محباً للعمران فأنشأ كثيراً من المنشآت التي ما تزال باقية حتى الآن، مثل البيمارستان والمدرسة والحمام ودار الحديث وأصلح السور والأبراج وفتح باب السلام وباب الفرج، وخارج السور أنشأ قصر شمس الملوك وخانقاه الطواويس وخانقاه خاتون. وفي عهده ظهرت الصالحية ضاحية مستقلة، أول من سكنها المقادسة المهاجرون دعاة المذهب الحنبلي. وفيها أنشئت مدارس مازالت باقية كالجهازكسية والصاحبة والشبلية والركنية والشامية، التي أنشئت في العهد الأيوبي المتمم لعهد نور الدين.
كما ظهرت أرباض أخرى خارج السور كمنطقة حكر السماق (شارع النصر) وأنشئت مساجد في الصالحية كجامع الحنابلة والماردانية في السفح، وجامع الجراح في الشاغور والتوبة في العقيبة والمصلى في الميدان، وأنشئ في الصالحية بيمارستان القيمري.
وأهم المنشآت الأيوبية، قلعة دمشق التي سنتوسع في الحديث عنها وعدد من المدارس، العادلية الصغرى والعادلية الكبرى، والباردائية والناصرية والقلجية والعزيزية والإقباليتان الحنفية الشافعية، وكان في دمشق مئة حمام وأربعين داراً للوضوء وقيسارية مما تحدث عنه الرحالة في عهد صلاح الدين. ولقد بلغت دمشق أقصى توسعها في عهد المماليك، إلى أن جاء تيمورلنك وحل بها الخراب الكامل.
وكان في دمشق قصر السعادة الذي كان أولاً لنور الدين واتخذه المماليك مقراً لأمرائهم، كما ازداد عدد المدارس في عهدهم ومنها دار الحديث التي بناها تنكز والمدرسة الخيضرية والمدرسة الجوهرية كما أنشئت الجوامع ومنها جامع هشام والقلعي. كما اتسعت الضواحي ونمت واتصلت بالأسوار فتتسع الصالحية وينشأ في سفحها محلتان الميطور وحمام النحاس والجسر الأبيض وأرزه. وفي شمالي السور تظهر محلة السبع أنابيب والأقصاب والعقيبة وتحت القلعة، وفي الجنوب الشاغور وباب السريجة والشويكة والميدان.
ومن أهم المنشآت، القصر الأبلق الذي أنشأه الملك الظاهر بيبرس، (مكان التكية) وفي جنوب القصر ظهرت أحياء المنيبع والخلخال. وجامع الأمير تنكز (شارع النصر) وجامع الأمير يلبغا (المرجة) وحوله ساحة مزدحمة بالنشاط التجاري. كانت دمشق في ذلك الوقت من أجمل مدن العالم نضارة ونظافة ومن أكثرها نشاطاً وازدهاراً.
ولقد اقتدى العثمانيون الأوائل بالمماليك في حب العمران فأنشأ السلطان سليم التكية لإطعام الفقراء في الصالحية والجامع وفيه ضريح الصوفي محي الدين بن عربي. كما أنشأ ابنه سليمان القانوني التكية والمدرسة المجاورة لها في مكان القصر الأبلق الظاهري، وفي عام 1574 شيد الوالي درويش باشا الجامع والمكتب والمدفن والسبيل هذه المجموعة المعروفة اليوم بالدرويشية كما أنشأ هذا الوالي سوقاً وفيه خان وحمام (سوق الحرير والقيشاني)، كما أنشئ مسجد سنان آغا (1562) وأنشأ مراد باشا مسجداً وتكية 1568.
وأنشأت الولاة من أسرة العظم كثيراً من المباني التي مازال بعضها قائماً حتى الآن وبخاصة قصر العظم والخان، والمدرسة، وسوق الحميدية الشهير.
ولعل عهد الوالي ناظم باشا كان من أكثر العهود العثمانية ازدهاراً فلقد أنشأ في بداية هذا القرن القصر في المهاجرين، المستشفى الوطني ودار المعلمين، والسراي ودار البلدية والشرطة وجر مياه عين الفيجة إلى دمشق ومد خط البرق إلى المدينة المنورة وأقام النصب الضخم في ساحة المرجة وباشر بإنشاء سكة حديد تربط دمشق ببيروت من الغرب وبالحجاز من الجنوب. وابتدأ في إنارة دمشق بالكهرباء منذ عام 1905 وسيرت الحافلات الكهربائية منذ ذلك الوقت من الجسر الأبيض إلى الميدان. وبنى ناظم باشا حي المهاجرين وسقف أسواق دمشق.
ومنذ ما بعد الاستقلال 1918 تبدأ دمشق بالانقسام إلى مدينة قديمة ضمن الأسوار وحديثة تزداد التحاماً وانتظاماً خارج الأسوار، ويبلغ التناقض أوجه بين المدينتين في أيامنا هذه