صورة من حياة الصحابي الجليل / أنس بن مالك الأنصاري
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اخترت لكم من كتاب صور من حياة الصحابة للدكتور / عبد الرحمن رأفت الباشا صورة من حياة الصحابي الجليل / أنس بن مالك الأنصاري
وفي هذا الكتاب نماذج بشرية واقعية عظيمة تتمثل فيها القيم السامية النابعة من عقيدتنا وفيها أيضا التوجيه الرائع والدروس النافعة في القصة والأدب بل وفي القراءة السليمة والكتابة السليمة أيضا ..
............
ولنبدأ بسم الله الرحمن الرحيم
أَنَسُ بنُ مالِكٍ الأَنصاريُّ
" اللهم ارزقه مالا وولدا ، وبارك له "
( من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له )
كان أنس بن مالك في عمر الورد حين لقنته أمه " الغُمَيصاء " الشهادتين ، وملأت فؤاده الغض بحب نبي الإسلام محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ...
فَشُغِفَ أنس به حبا على السماع .
ولا غَروَ ، فالأذن تعشق قبل العين أحيانا ...
وكم تمنى الغلام الصغير أن يمضي إلى نبيه في مكة ، أو أن يفد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عليهم في " يثرب " ليسعد برؤياه ، ويهنأ بلقياه .
لم يمض على ذلك طويل وقت حتى سرى إلى " يثرب " المحظوظة المغبوطة أن النبي صلوات الله وسلامه عليه وصاحبه الصدِّيق في طريقهما إليها .. فغمرت البهجة كل بيت ، وملأت الفرحة كل قلب ...
وتعلقت العيون والقلوب بالطريق المبارك الذي يحمل خُطا النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى " يثرب " .
وأخذ الفتيان يُشِيعون مع إشراقة كل صباح : أن محمدا قد جاء ..
فكان يسعى إليه أنس مع الساعين من الأولاد الصغار ، ولكنه لا يرى شيئا فيعود كئيبا محزونا .
وفي ذات صباح شَذِّي الأنداء ( مطيب بالمسك ) ، نضير الرُّوَاء ، هتف رجال في " يثرب " : إن محمدا وصاحبه غَدَوا قريبين من المدينة .
فَطَفِقَ الرجال يتجهون نحو الطريق المبارك الذي يحمل إليهم نبي الهدى والخير ...
ومضوا يتسابقون إليه جماعات جماعات ، تتخللهم أسراب من صغار الفتيان تُزّغرِد على وجوههم فرحة تغمر قلوبهم الصغيرة ، وتملأ أفئدتهم الفتيَّة ...
وكان في طليعة هؤلاء الصبية أنس بن مالك الأنصاري .....
أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصدِّيق ، ومضيا بين أظهُر الجموع الزاخرة من الرجال والولدان ...
أما النسوة المستقرات في بيوتهن ، والصبايا الصغيرات فقد علون سطوح المنازل ، وجعلن يتراءَين الرسول صلوات الله وسلامه عليه ويقلن : أَيَّهُم هو .. أيَّهُم هو ؟؟!!
فكان ذلك اليوم يوما مشهودا ...
ظل أنس بن مالك يذكره حتى نَيَّف على المائة من عمره ..
ما كاد الرسول صلى الله عليه وسلم يستقر بالمدينة ، حتى جاءته " الغميصاء بنت مِلحان " أم أنس ، وكان معها غلامها الصغير ، وهو يسعى بين يديها ، وشعره يتحرك على جبينه ....
ثم حيَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت :
يا رسول الله ... لم يبق رجل ولا امرأة من الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة ، وإني لم أجد ما أتحفك به غير ابني هذا ...
فخذه ، فليخدمك ما شئت ...
فهَشَّ النبي صلى الله عليه وسلم للفتى الصغير وبشَّ ، ومسح رأسه بيده الشريفة ، ومس شعره بأنامله الندية ، وضمه إلى أهله .
كان أنس بن مالك " أُنَيس " – كما كانوا ينادونه تدليلا – في العاشرة من عمره يوم سعد بخدمة النبي صلوات الله وسلامه عليه .
وظل يعيش في كنفه ورعايته إلى أن لحق النبي الكريم بالرفيق الأعلى .
فكانت مدة صحبته له عشر سنوات كاملات ، نهل فيها من هديه ما زكَّى به نفسه ، ووعى من حديثه ما ملأ به صدره ، وعرف من أحواله وأخباره وأسراره وشمائله ما لم يعرفه أحدٌ سواه .
وقد لقي أنس بن مالك من كريم معاملة النبي صلوات الله وسلامه عليه ما لم يظفر به ولدٌ من والد ...
وذاق من نبيل شمائله ، وجليل خصاله ما تغبطه عليه الدنيا .
فلنترك لأنس الحديث عن بعض الصور الوضَّاءة من هذه المعاملة الكريمة التي لقيها في رحاب النبي السمح الكريم صلى الله عليه وسلم ، فهو بها أدرى ، وعلى وصفها أقوى ...
قال أنس بن مالك :
كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه من أحسن الناس خُلُقا ، وأرحبهم صدرا ، وأوفرهم حنانا ...
فقد أرسلني يوما لحاجة فخرجت ، وقصدت صبيانا يلعبون في السوق لألعب معهم ولم أذهب إلى ما أمرني به ، فلما صِرتُ إليهم شعرت بانسان يقف خلفي ، ويأخذ بثوبي ...
فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول : ( يا أُنَيس أذهبتُ حيث أمرتك ؟ ) .
فارتبكت وقلت : نعم .. إني ذاهب الآن يا رسول الله ..
والله لقد خدمته عشر سنين ، فما قال لشيء صنعته : لِمَ صنعته .. ولا لشيء تركته : لِمَ تركته ...
وكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه إذا نادى أنسا صغَّره تحبُّبا وتدليلا ؛ فتارة يناديه يا أُنَيس ، وأخرى يا بُنَّي .
وكان يغدق عليه من نصائحه ومواعظه ما ملأ قلبه وملك لبه .
من ذلك قوله له : ( يا بُنَّي إن قدرت أن تُصبِح وتُمسي وليس في قلبك غِشٌ لأحد فافعل ..
يا بُنَّي إنَّ ذلك من سُنَّتي ، ومن أحيا سُنَّتي فقد أحبني ...
ومَن أحبني كان معي في الجنة ...
يا بُنَّي إذا دخلت على أهلك فَسَلِّم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك )
عاش أنس بن مالك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة على الثمانين عاما ؛ ملأ خلالها الصدور علما من علم الرسول الأعظم الله صلى الله عليه وسلم ، وملأ فيها العقول فقها من فقه النبوة ...
وأحيا فيها القلوب بما بثَّه بين الصحابة والتابعين من هدي النبي صلوات الله عليه وسلامه ، وما أذاعه في الناس من شريف أقوال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وجليل أفعاله .
وقد غدا أنس على طول هذا العمر المديد مرجِعا للمسلمين ، يفزعون إليه كلما أشكَلَ عليهم أمر ، ويُعّوِّلون عليه كلما استَغلَقَ على أفهامهم حُكم .
من ذلك ، أن بعض المُمارين في الدين جعلوا يتكلمون في ثبوت حَوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فسألوه في ذلك ، فقال :
ما كنت أظن أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض ، لقد تركت عجائز خلفي ما تُصلِّي واحدة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي عليه الصلاة والسلام .
ولقد ظل أنس بن مالك يعيش مع ذكرى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ما امتدت به الحياة ..
فكان شديد البهجة بيوم لقائه ، سخي الدمعة على يوم فراقه ، كثير الترديد لكلامه ..
حريصا على متابعته في أفعاله وأقواله ، يحب ما أحب ، ويكره ما كره ، وكان أكثر ما يذكره من أيامه يومان :
يوم لقائه معه أول مرة ، ويوم مفارقته له آخر مرة .
فإذا ذكر اليوم الأول سَعِد به وانتشى ، وإذا خطر له اليوم الثاني انتحب وبكى ، وأبكى مَن حوله من الناس .
وكثيرا ما كان يقول : لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يوم دخل علينا ، ورأيته يوم قُبِضَ منا ، فلم أر يومين يُشبِهانِهِما .
ففي يوم دخوله المدينة أضاء فيها كل شيء ..
وفي اليوم الذي أوشك فيه أن يمضي إلى جوار ربه أظلم فيها كل شيء ...
وكان آخر نظرة نظرتها إليه يوم الاثنين حين كُشِفَت الستارة عن حجرته ، فرأيت وجهه كأنه ورقة مصحف ، وكان الناس يومئذ وقوفا خلف أبي بكر ينظرون إليه ، وقد كادوا أن يضطربوا ، فأشار إليهم أبو بكر أنِ اثبُتُوا .
ثم تُوُفِّيَ الرسول عليه الصلاة والسلام في آخر ذلك اليوم ، فما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجهه صلى الله عليه وسلم حين واريناه ترابه .
ولقد دعا رسول الله صلوات الله عليه لأنس بن مالك أكثر من مرة ...
وكان من دعائه له :
( اللهم ارزقه مالا وولدا ، وبارك له ) ..
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام ، فكان أنس أكثر الأنصار مالا ، وأوفرهم ذُرِّية ؛ حتى إنه رأى من أولاده وحفدته ما يزيد على المِائَة .
وقد بارك الله له في عمره حتى عاش قرنا كاملا ...
وفوقه ثلاث سنوات .
وكان أنس رضوان الله عليه شديد الرجاء لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له يوم القيامة ؛ فكثيرا ما كان يقول :
إني لأرجو أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة فأقول له :
يا رسول الله هذا خُوَيدِمكَ أُنَيس .
ولما مرض أنس بن مالك مرض الموت قال لأهله :
لَقِّنوني : لا إله إلا الله ، محمدٌ رسول الله .
ثم ظل يقولها حتى مات .
وقد أوصى بِعُصَيَّة صغيرة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تُدفَن معه ، فَوُضِعَت بين جنبه وقميصه .
هنيئا لأنس بن مالك الأنصاري على ما أسبغه الله عليه من خير .
فقد عاش في كنف الرسول الأعظم صلوات الله عليه وسلامه عشر سنوات كاملات ...
وكان ثالث اثنين في رواية حديثه هما أبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ...
وجزاه الله هو وأمه الغميصاء عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين
اللهم آمين يارب العالمين
اللهم اجعله عملا خالصا لوجهك الكريم
وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وثبتنا على صراطك المستقيم
اللهم آمين يارب العالمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اخترت لكم من كتاب صور من حياة الصحابة للدكتور / عبد الرحمن رأفت الباشا صورة من حياة الصحابي الجليل / أنس بن مالك الأنصاري
وفي هذا الكتاب نماذج بشرية واقعية عظيمة تتمثل فيها القيم السامية النابعة من عقيدتنا وفيها أيضا التوجيه الرائع والدروس النافعة في القصة والأدب بل وفي القراءة السليمة والكتابة السليمة أيضا ..
............
ولنبدأ بسم الله الرحمن الرحيم
أَنَسُ بنُ مالِكٍ الأَنصاريُّ
" اللهم ارزقه مالا وولدا ، وبارك له "
( من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له )
كان أنس بن مالك في عمر الورد حين لقنته أمه " الغُمَيصاء " الشهادتين ، وملأت فؤاده الغض بحب نبي الإسلام محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ...
فَشُغِفَ أنس به حبا على السماع .
ولا غَروَ ، فالأذن تعشق قبل العين أحيانا ...
وكم تمنى الغلام الصغير أن يمضي إلى نبيه في مكة ، أو أن يفد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عليهم في " يثرب " ليسعد برؤياه ، ويهنأ بلقياه .
لم يمض على ذلك طويل وقت حتى سرى إلى " يثرب " المحظوظة المغبوطة أن النبي صلوات الله وسلامه عليه وصاحبه الصدِّيق في طريقهما إليها .. فغمرت البهجة كل بيت ، وملأت الفرحة كل قلب ...
وتعلقت العيون والقلوب بالطريق المبارك الذي يحمل خُطا النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى " يثرب " .
وأخذ الفتيان يُشِيعون مع إشراقة كل صباح : أن محمدا قد جاء ..
فكان يسعى إليه أنس مع الساعين من الأولاد الصغار ، ولكنه لا يرى شيئا فيعود كئيبا محزونا .
وفي ذات صباح شَذِّي الأنداء ( مطيب بالمسك ) ، نضير الرُّوَاء ، هتف رجال في " يثرب " : إن محمدا وصاحبه غَدَوا قريبين من المدينة .
فَطَفِقَ الرجال يتجهون نحو الطريق المبارك الذي يحمل إليهم نبي الهدى والخير ...
ومضوا يتسابقون إليه جماعات جماعات ، تتخللهم أسراب من صغار الفتيان تُزّغرِد على وجوههم فرحة تغمر قلوبهم الصغيرة ، وتملأ أفئدتهم الفتيَّة ...
وكان في طليعة هؤلاء الصبية أنس بن مالك الأنصاري .....
أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصدِّيق ، ومضيا بين أظهُر الجموع الزاخرة من الرجال والولدان ...
أما النسوة المستقرات في بيوتهن ، والصبايا الصغيرات فقد علون سطوح المنازل ، وجعلن يتراءَين الرسول صلوات الله وسلامه عليه ويقلن : أَيَّهُم هو .. أيَّهُم هو ؟؟!!
فكان ذلك اليوم يوما مشهودا ...
ظل أنس بن مالك يذكره حتى نَيَّف على المائة من عمره ..
ما كاد الرسول صلى الله عليه وسلم يستقر بالمدينة ، حتى جاءته " الغميصاء بنت مِلحان " أم أنس ، وكان معها غلامها الصغير ، وهو يسعى بين يديها ، وشعره يتحرك على جبينه ....
ثم حيَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت :
يا رسول الله ... لم يبق رجل ولا امرأة من الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة ، وإني لم أجد ما أتحفك به غير ابني هذا ...
فخذه ، فليخدمك ما شئت ...
فهَشَّ النبي صلى الله عليه وسلم للفتى الصغير وبشَّ ، ومسح رأسه بيده الشريفة ، ومس شعره بأنامله الندية ، وضمه إلى أهله .
كان أنس بن مالك " أُنَيس " – كما كانوا ينادونه تدليلا – في العاشرة من عمره يوم سعد بخدمة النبي صلوات الله وسلامه عليه .
وظل يعيش في كنفه ورعايته إلى أن لحق النبي الكريم بالرفيق الأعلى .
فكانت مدة صحبته له عشر سنوات كاملات ، نهل فيها من هديه ما زكَّى به نفسه ، ووعى من حديثه ما ملأ به صدره ، وعرف من أحواله وأخباره وأسراره وشمائله ما لم يعرفه أحدٌ سواه .
وقد لقي أنس بن مالك من كريم معاملة النبي صلوات الله وسلامه عليه ما لم يظفر به ولدٌ من والد ...
وذاق من نبيل شمائله ، وجليل خصاله ما تغبطه عليه الدنيا .
فلنترك لأنس الحديث عن بعض الصور الوضَّاءة من هذه المعاملة الكريمة التي لقيها في رحاب النبي السمح الكريم صلى الله عليه وسلم ، فهو بها أدرى ، وعلى وصفها أقوى ...
قال أنس بن مالك :
كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه من أحسن الناس خُلُقا ، وأرحبهم صدرا ، وأوفرهم حنانا ...
فقد أرسلني يوما لحاجة فخرجت ، وقصدت صبيانا يلعبون في السوق لألعب معهم ولم أذهب إلى ما أمرني به ، فلما صِرتُ إليهم شعرت بانسان يقف خلفي ، ويأخذ بثوبي ...
فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول : ( يا أُنَيس أذهبتُ حيث أمرتك ؟ ) .
فارتبكت وقلت : نعم .. إني ذاهب الآن يا رسول الله ..
والله لقد خدمته عشر سنين ، فما قال لشيء صنعته : لِمَ صنعته .. ولا لشيء تركته : لِمَ تركته ...
وكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه إذا نادى أنسا صغَّره تحبُّبا وتدليلا ؛ فتارة يناديه يا أُنَيس ، وأخرى يا بُنَّي .
وكان يغدق عليه من نصائحه ومواعظه ما ملأ قلبه وملك لبه .
من ذلك قوله له : ( يا بُنَّي إن قدرت أن تُصبِح وتُمسي وليس في قلبك غِشٌ لأحد فافعل ..
يا بُنَّي إنَّ ذلك من سُنَّتي ، ومن أحيا سُنَّتي فقد أحبني ...
ومَن أحبني كان معي في الجنة ...
يا بُنَّي إذا دخلت على أهلك فَسَلِّم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك )
عاش أنس بن مالك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة على الثمانين عاما ؛ ملأ خلالها الصدور علما من علم الرسول الأعظم الله صلى الله عليه وسلم ، وملأ فيها العقول فقها من فقه النبوة ...
وأحيا فيها القلوب بما بثَّه بين الصحابة والتابعين من هدي النبي صلوات الله عليه وسلامه ، وما أذاعه في الناس من شريف أقوال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وجليل أفعاله .
وقد غدا أنس على طول هذا العمر المديد مرجِعا للمسلمين ، يفزعون إليه كلما أشكَلَ عليهم أمر ، ويُعّوِّلون عليه كلما استَغلَقَ على أفهامهم حُكم .
من ذلك ، أن بعض المُمارين في الدين جعلوا يتكلمون في ثبوت حَوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فسألوه في ذلك ، فقال :
ما كنت أظن أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض ، لقد تركت عجائز خلفي ما تُصلِّي واحدة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي عليه الصلاة والسلام .
ولقد ظل أنس بن مالك يعيش مع ذكرى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ما امتدت به الحياة ..
فكان شديد البهجة بيوم لقائه ، سخي الدمعة على يوم فراقه ، كثير الترديد لكلامه ..
حريصا على متابعته في أفعاله وأقواله ، يحب ما أحب ، ويكره ما كره ، وكان أكثر ما يذكره من أيامه يومان :
يوم لقائه معه أول مرة ، ويوم مفارقته له آخر مرة .
فإذا ذكر اليوم الأول سَعِد به وانتشى ، وإذا خطر له اليوم الثاني انتحب وبكى ، وأبكى مَن حوله من الناس .
وكثيرا ما كان يقول : لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يوم دخل علينا ، ورأيته يوم قُبِضَ منا ، فلم أر يومين يُشبِهانِهِما .
ففي يوم دخوله المدينة أضاء فيها كل شيء ..
وفي اليوم الذي أوشك فيه أن يمضي إلى جوار ربه أظلم فيها كل شيء ...
وكان آخر نظرة نظرتها إليه يوم الاثنين حين كُشِفَت الستارة عن حجرته ، فرأيت وجهه كأنه ورقة مصحف ، وكان الناس يومئذ وقوفا خلف أبي بكر ينظرون إليه ، وقد كادوا أن يضطربوا ، فأشار إليهم أبو بكر أنِ اثبُتُوا .
ثم تُوُفِّيَ الرسول عليه الصلاة والسلام في آخر ذلك اليوم ، فما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجهه صلى الله عليه وسلم حين واريناه ترابه .
ولقد دعا رسول الله صلوات الله عليه لأنس بن مالك أكثر من مرة ...
وكان من دعائه له :
( اللهم ارزقه مالا وولدا ، وبارك له ) ..
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام ، فكان أنس أكثر الأنصار مالا ، وأوفرهم ذُرِّية ؛ حتى إنه رأى من أولاده وحفدته ما يزيد على المِائَة .
وقد بارك الله له في عمره حتى عاش قرنا كاملا ...
وفوقه ثلاث سنوات .
وكان أنس رضوان الله عليه شديد الرجاء لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له يوم القيامة ؛ فكثيرا ما كان يقول :
إني لأرجو أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة فأقول له :
يا رسول الله هذا خُوَيدِمكَ أُنَيس .
ولما مرض أنس بن مالك مرض الموت قال لأهله :
لَقِّنوني : لا إله إلا الله ، محمدٌ رسول الله .
ثم ظل يقولها حتى مات .
وقد أوصى بِعُصَيَّة صغيرة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تُدفَن معه ، فَوُضِعَت بين جنبه وقميصه .
هنيئا لأنس بن مالك الأنصاري على ما أسبغه الله عليه من خير .
فقد عاش في كنف الرسول الأعظم صلوات الله عليه وسلامه عشر سنوات كاملات ...
وكان ثالث اثنين في رواية حديثه هما أبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ...
وجزاه الله هو وأمه الغميصاء عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين
اللهم آمين يارب العالمين
اللهم اجعله عملا خالصا لوجهك الكريم
وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وثبتنا على صراطك المستقيم
اللهم آمين يارب العالمين