العبيد وشمر
أدى توسع الحركة الوهابية سنة 1205هـ/ 1790م وطغيانها على أطراف الجزيرة العربية إلى إزاحة شمر عن مواقعها في جزيرة نجد إلى سهول العراق، حيث لقيت الترحيب من السلطات العثمانية لتتخذها كعون لها ضد الوهابيين، ونتيجة غارات سعود بن عبد العزيز آل سعود على أطراف العراق قتل مطلك الجربا سنة 1212هـ/ 1797م وخلفه أخوه فارس الجربا، واضطرت عشيرة شمر أن تعبر الفرات بعد مزاحمتها من قبل عشائر عنزة، وانساحت في سهول الجزيرة الفراتية حيث زاحمت العشائر القديمة المستقرة في تلك الأنحاء كطي والعبيد والبيات وقيس وغيرها.
ومما تتناقله العشائر كافة في مجالسها قصص طريفة عن كيفية مجيء شمر بالحيلة بشكل مجموعات صغيرة أولا وتكاثرها تدريجيا حتى تمكنت من العشائر القديمة. فان فارس الجربا لما رأى أن سبل العودة إلى نجد مع عشيرته قد سدت، وان موقفه أصبح مهددا بالخطر لمتابعة السعوديين الهجمات على العراق، عبر الفرات من موقع هيت في أوائل سنة 1216هـ/ 1801م مع أربعين بيتا من عشيرته الخرصة، وتقول روايات أخرى أنه أرسل ابن أخيه المدعو أبنيّة مع جماعته. وكانت السيطرة الكاملة في الجزيرة لإمارتي العبيد وطي، واستقراره فيها كان متوقفا على محاسنة هاتين العشيرتين، فلم يغفل عن هذا فأسرع إلى جوار العبيد أولا ملتجأ إلى حماية أميرها حمد الظاهر، فتلقاه هذا بالترحاب.
وكانت العادة المتبعة لدى العشائر البدوية تقضي على العشيرة القاطنة أن تقيم وليمة عامة تدعو إليها العشيرة النازلة مجددا، لتكون هذه الوليمة مقدمة للتعارف والتآلف بينهما، فأقام شيخ العبيد هذه الوليمة ودعا إليها شيوخ طي والجبور.
وحضر فارس وجماعته إلى الدعوة وكانت ثيابهم لا تدلّ على علوّ منزلتهم، وقد خيل إلى المدعوين أن هؤلاء المهاجرين هم من عشيرتي (صلبة أو هتيم) اللتين يعدهما البدو من العشائر الضعيفة التي لا أصل لها. ولما شعر فارس شيخ شمر بما بدا على وجوه رؤساء العبيد وطي والجبور من النفور، أراد أن يثبت لمضيفيه أنه هو وعشيرته من النبل والكرم بحيث يضرب بهما المثل، فقرر أن يقابل الوليمة بمثلها ودعا رؤساء العبيد وطي والجبور لتناول الطعام عنده، إلا أن هؤلاء ترددوا في قبول الدعوة اعتقادا منهم بأن هؤلاء ليسوا أهلا لإجابة دعوتهم وحضور وليمتهم، ولكنهم بعد لأي أجابوا الدعوة على مضض.
ولما حضر المدعوون إلى وليمة فارس الجربا، قدم لهم منسفا كبيرا جدا فيه ناقة مطبوخة كما هي، وفي أطراف المنسف سكاكين مربوطة بالسلاسل لقطع اللحم، فاستعظم المدعوون ما رأوه واسترابوا، فضخامة المناسف تدل عند البدو دلالة قاطعة على عظمة صاحبها، ولذلك حسبوا لهؤلاء النازلين ألف حساب خوفا على أنفسهم، لاعتقادهم أن وراء هذه المناسف عشائر كبيرة العدد وستلحقه إلى الجزيرة عاجلاً أو آجلاً.
فالرأي الصواب أن يقضي على هذه المجموعة القليلة قبل أن تزداد بما يرد إليها ويستفحل أمرها، ويقال أن شيخ الجبور قد امتنع عن الأكل، بحجة أنه صائم لكي لا يصبح بينه وبينهم زاد وملح يمنعه من محاربتهم.
وفي رواية أن الذي أشار بهذا الرأي كان شيخ العبيد أحد المدعوين للوليمة، فلم يرق ذلك إلى البقية، وقالوا أن هذا الرجل جاءنا نزيلا ولم يأت محارباً.
وتقول الروايات المتداولة التي تعد من حكايات الموروث الشعبي البدوي وأشك بواقعيتها أن أمير العبيد حزم أمره على طرد الرجل الشمري مع أتباعه لولا تحايل نساء شمر، فإن فارس عندما شعر بذلك طلب من نسائه أن يخلعن حليهن ويقدمنه إلى نساء الرؤساء الثلاثة كأمانة خوفا من نهبه عند مهاجمتهم، وأن يتوسطن عند أزواجهن للحيلولة دون الفتك بهم وهم قوم فقراء من الصلبة، فلبين الطلب ووعدنهن خيراً. فلما أقبل الليل لم تفرش نساء الزعماء الفرش وهي علامة يستدل منها الرجال على حدوث أمور خطيرة، فسئلن عن السبب، فطلبن الأمان للمهاجرين النازلين، فأعطين الأمان بعد ممانعة واجبن إلى ما أردن فمدت الفرش.
وكانت الحكومة العثمانية هي التي أوعزت إلى فارس الجربا شيخ شمر بالضغط على العبيد والجبور وطي لئلا يكونوا يدا واحدة ضد العثمانيين.
وبعد أن استقر فارس في الجزيرة شرع يوالي الرسل والرسائل إلى عشائره النازلة في أنحاء الشامية المختلفة ويدعوها إلى اللحاق به، وزيادة لها في الأغراء والتشويق كان يحشو حدج الإبل والركائب الذاهبة إليها من كلأ الجزيرة وأعشابها المتنوعة الصالحة لرعي جميع أجناس المواشي، فهرعت إليه عشائر شمر من كل حدب وصوب، ولم يطلع عام 1217هـ/ 1802م حتى كانت حوله بكاملها.
وقد ذكر مؤلف كتاب القبائل العراقية أن شيخ العبيد أنذر الرجل الشمري مع أتباعه لوجوب الهجرة ولكنهم تمنعوا، فأثارتها عشائر العبيد حربا شعواء على شمر انتهت بفوزهم بعد أن أجلوا شمر عن أراضيهم وتعقبوهم إلى حدود حلب.
وبعد هذا الحادث بأعوام نظمت شمر قواها عددا وعدة فغزت على حين غرة عشائر العبيد وأبناءها من أبناء عمومتهم، غير أن العبيد صدوا الهجوم وأعادوا الغزاة من حيث أتوا بعد أن كبدوهم خسائر فادحة. وقد لا يخفى أن مثل هذه المعارك كانت تستمر أحيانا إلى سنين طويلة.
ولما رأت العبيد استعداد شمر في هذه المرة عقدت حلفا مع شيخ مشايخ عنزة ابن مهيد لكي تحافظ على نسبتها في القوة والإيثار بالسلطة، وقد تحقق ظنها إذ رجعت جيوش شمر خائبة خاسرة، ولكنها مع ذلك لم تستطيع أن تنام وسيف الذل مسلطا على رقابها.
واستمرت المناوشات بين الطرفين، ففي سنة 1220هـ/1805م أغارت بعض فرسان العبيد على سبعين بيتا من الجربا فقتلوهم عن آخرهم واستولوا على خيامهم وأموالهم(89). ودام القتال الأخير بين شمر الجربا والعبيد وطي بالاتفاق مع عشيرة الصائح والبوحمدان مدة تسعين يوما، أشرك فيه والي بغداد علي باشا قوات من جيشه، وتقول الروايات أن شمر ألبست هؤلاء العثمانيين الملابس العربية لكي لا تنتقدها العشائر.
وفي سنة 1220هـ/1805م جرت آخر معركة بين العبيد والبوحمدان والصائح من جهة وبين شمر والقوات العثمانية من جهة أخرى، وعبر قسم من العبيد بزعامة علي بن حمد الظاهر ومعه قبيلة البوحمدان والصائح نهر دجلة، وكانت شمر وجيش الوالي تتعقبهم فغرق من النساء والأطفال حوالي ثلاثمائة، ومن سلم تلقفته عشائر شمر الجربا وقاتلوهم حتى سحقوهم ونهبوا خيامهم وأموالهم ومواشيهم. أما عرب العبيد فهاموا على وجوههم في القفار ومات منهم مئات جوعا وعطشاً(90). وقتل الأمير ضامن بن محمد الظاهر وابن أخيه سليمان بن أحمد بن محمد الظاهر.
نهاية إمارة العبيد الحميرية
على أثر هذه المعركة تشتت جموع الإمارة في عدة أماكن وأفل نجم أعظم إمارة حكمت جزيرة سنجار مدة تقارب الخمسة قرون، وانتشرت عشائر القبيلة كما يلي :
1- لجأ علي بن حمد الظاهر والقسم الأكبر من القبيلة إلى منطقة الحويجة موطن أفخاذ عدة من القبيلة منذ أمد بعيد.
2- استقر آل الشاوي في بغداد ومنطقة تكريت.
3- التجأت عشيرة البوحمد والبوسيف وآل الجبل إلى جبل سنجار.
4- التجأت عوائل عديدة من العبيد واستقرت في الموصل.
واصطدمت جموع العبيد في منطقة سنجار من البوحمد والبوسيف وآل الجبل بقيادة فندي الحمدي مع جموع شمر تعاضدهم القوات العثمانية، وحوصرت العبيد في منطقة الخان حيث أعمل فيهم الجيش العثماني وشمر القتل والذبح، وقتل أكثر من مائة نفس من العبيد، وعرفت هذه المذبحة باسم (ذبحة الحويش).
وفر أمين بن محمد بن أحمد الجبل إلى منطقة تكريت والحويجة، وتمكن مع جاسم الشاوي من تحشيد جموع العبيد مرة أخرى، واصطدما مع القوات العثمانية وشمر قرب المحلبية، قتل فيها أمين بن محمد بن أحمد الجبل، وفر جاسم الشاوي إلى منطقة عفك.
بعد هذه الحوادث استقر آل الجبل وبعض البورياش والبوسيف في منطقة (عرب كوي) شرق تلعفر، أما باقي العشائر فقد اتجهت الصائح إلى الحويجة وسكنتها، واتجهت طي إلى منطقة شمامك على الزاب، أما الجبور فقد سكنوا منطقة الخابور ثم انساحوا نحو الضفة الغربية من دجلة. وهكذا خلا الجو إلى شمر في الجزيرة، وتمت لها السيطرة على أطرافها ونواحيها، حتى آل بها الأمر إلى أن تفرض نوعاً من الضرائب يسمى (الخوّة)، تأخذها من كل عشيرة تنزل في منطقتها.
وقد استمر العداء بين شمر والعبيد خلال عصر المماليك عنيفاً، وامتد هذا النزاع إلى منتصف القرن العشرين، فكان من العوامل التي منحت باشوات بغداد فرصة ضرب شمر بالعبيد والعبيد بشمر، بدون أن يضعوا حلاً دائماً للمشكلة العشائرية، وبدون أن ينظروا في تنظيم حركات الهجرة العشائرية.
وفي سنة 1225هـ/1810م شاركت قبيلة العبيد بقيادة الشيخ علي الحمد مع عشائر طي برئاسة الشيخ فارس الحمد وعشائر شمامك وعلى رأسها ظاهر بن حسن الطائي. وكونت قوة كبيرة قوامها خمسة عشر ألف مقاتل من ضمنها قوات عبد الرحمن بابان الكردية تجمعت في كركوك، وبعد أن التحق بها البيات والغرير بدأت بالزحف على بغداد وعلى رأسها المبعوث السلطاني حالت أفندي، وفي معيته محمود باشا الجليلي وعبد الرحمن بابان وعبد الله أغا وطاهر أغا، لعزل الوالي
أدى توسع الحركة الوهابية سنة 1205هـ/ 1790م وطغيانها على أطراف الجزيرة العربية إلى إزاحة شمر عن مواقعها في جزيرة نجد إلى سهول العراق، حيث لقيت الترحيب من السلطات العثمانية لتتخذها كعون لها ضد الوهابيين، ونتيجة غارات سعود بن عبد العزيز آل سعود على أطراف العراق قتل مطلك الجربا سنة 1212هـ/ 1797م وخلفه أخوه فارس الجربا، واضطرت عشيرة شمر أن تعبر الفرات بعد مزاحمتها من قبل عشائر عنزة، وانساحت في سهول الجزيرة الفراتية حيث زاحمت العشائر القديمة المستقرة في تلك الأنحاء كطي والعبيد والبيات وقيس وغيرها.
ومما تتناقله العشائر كافة في مجالسها قصص طريفة عن كيفية مجيء شمر بالحيلة بشكل مجموعات صغيرة أولا وتكاثرها تدريجيا حتى تمكنت من العشائر القديمة. فان فارس الجربا لما رأى أن سبل العودة إلى نجد مع عشيرته قد سدت، وان موقفه أصبح مهددا بالخطر لمتابعة السعوديين الهجمات على العراق، عبر الفرات من موقع هيت في أوائل سنة 1216هـ/ 1801م مع أربعين بيتا من عشيرته الخرصة، وتقول روايات أخرى أنه أرسل ابن أخيه المدعو أبنيّة مع جماعته. وكانت السيطرة الكاملة في الجزيرة لإمارتي العبيد وطي، واستقراره فيها كان متوقفا على محاسنة هاتين العشيرتين، فلم يغفل عن هذا فأسرع إلى جوار العبيد أولا ملتجأ إلى حماية أميرها حمد الظاهر، فتلقاه هذا بالترحاب.
وكانت العادة المتبعة لدى العشائر البدوية تقضي على العشيرة القاطنة أن تقيم وليمة عامة تدعو إليها العشيرة النازلة مجددا، لتكون هذه الوليمة مقدمة للتعارف والتآلف بينهما، فأقام شيخ العبيد هذه الوليمة ودعا إليها شيوخ طي والجبور.
وحضر فارس وجماعته إلى الدعوة وكانت ثيابهم لا تدلّ على علوّ منزلتهم، وقد خيل إلى المدعوين أن هؤلاء المهاجرين هم من عشيرتي (صلبة أو هتيم) اللتين يعدهما البدو من العشائر الضعيفة التي لا أصل لها. ولما شعر فارس شيخ شمر بما بدا على وجوه رؤساء العبيد وطي والجبور من النفور، أراد أن يثبت لمضيفيه أنه هو وعشيرته من النبل والكرم بحيث يضرب بهما المثل، فقرر أن يقابل الوليمة بمثلها ودعا رؤساء العبيد وطي والجبور لتناول الطعام عنده، إلا أن هؤلاء ترددوا في قبول الدعوة اعتقادا منهم بأن هؤلاء ليسوا أهلا لإجابة دعوتهم وحضور وليمتهم، ولكنهم بعد لأي أجابوا الدعوة على مضض.
ولما حضر المدعوون إلى وليمة فارس الجربا، قدم لهم منسفا كبيرا جدا فيه ناقة مطبوخة كما هي، وفي أطراف المنسف سكاكين مربوطة بالسلاسل لقطع اللحم، فاستعظم المدعوون ما رأوه واسترابوا، فضخامة المناسف تدل عند البدو دلالة قاطعة على عظمة صاحبها، ولذلك حسبوا لهؤلاء النازلين ألف حساب خوفا على أنفسهم، لاعتقادهم أن وراء هذه المناسف عشائر كبيرة العدد وستلحقه إلى الجزيرة عاجلاً أو آجلاً.
فالرأي الصواب أن يقضي على هذه المجموعة القليلة قبل أن تزداد بما يرد إليها ويستفحل أمرها، ويقال أن شيخ الجبور قد امتنع عن الأكل، بحجة أنه صائم لكي لا يصبح بينه وبينهم زاد وملح يمنعه من محاربتهم.
وفي رواية أن الذي أشار بهذا الرأي كان شيخ العبيد أحد المدعوين للوليمة، فلم يرق ذلك إلى البقية، وقالوا أن هذا الرجل جاءنا نزيلا ولم يأت محارباً.
وتقول الروايات المتداولة التي تعد من حكايات الموروث الشعبي البدوي وأشك بواقعيتها أن أمير العبيد حزم أمره على طرد الرجل الشمري مع أتباعه لولا تحايل نساء شمر، فإن فارس عندما شعر بذلك طلب من نسائه أن يخلعن حليهن ويقدمنه إلى نساء الرؤساء الثلاثة كأمانة خوفا من نهبه عند مهاجمتهم، وأن يتوسطن عند أزواجهن للحيلولة دون الفتك بهم وهم قوم فقراء من الصلبة، فلبين الطلب ووعدنهن خيراً. فلما أقبل الليل لم تفرش نساء الزعماء الفرش وهي علامة يستدل منها الرجال على حدوث أمور خطيرة، فسئلن عن السبب، فطلبن الأمان للمهاجرين النازلين، فأعطين الأمان بعد ممانعة واجبن إلى ما أردن فمدت الفرش.
وكانت الحكومة العثمانية هي التي أوعزت إلى فارس الجربا شيخ شمر بالضغط على العبيد والجبور وطي لئلا يكونوا يدا واحدة ضد العثمانيين.
وبعد أن استقر فارس في الجزيرة شرع يوالي الرسل والرسائل إلى عشائره النازلة في أنحاء الشامية المختلفة ويدعوها إلى اللحاق به، وزيادة لها في الأغراء والتشويق كان يحشو حدج الإبل والركائب الذاهبة إليها من كلأ الجزيرة وأعشابها المتنوعة الصالحة لرعي جميع أجناس المواشي، فهرعت إليه عشائر شمر من كل حدب وصوب، ولم يطلع عام 1217هـ/ 1802م حتى كانت حوله بكاملها.
وقد ذكر مؤلف كتاب القبائل العراقية أن شيخ العبيد أنذر الرجل الشمري مع أتباعه لوجوب الهجرة ولكنهم تمنعوا، فأثارتها عشائر العبيد حربا شعواء على شمر انتهت بفوزهم بعد أن أجلوا شمر عن أراضيهم وتعقبوهم إلى حدود حلب.
وبعد هذا الحادث بأعوام نظمت شمر قواها عددا وعدة فغزت على حين غرة عشائر العبيد وأبناءها من أبناء عمومتهم، غير أن العبيد صدوا الهجوم وأعادوا الغزاة من حيث أتوا بعد أن كبدوهم خسائر فادحة. وقد لا يخفى أن مثل هذه المعارك كانت تستمر أحيانا إلى سنين طويلة.
ولما رأت العبيد استعداد شمر في هذه المرة عقدت حلفا مع شيخ مشايخ عنزة ابن مهيد لكي تحافظ على نسبتها في القوة والإيثار بالسلطة، وقد تحقق ظنها إذ رجعت جيوش شمر خائبة خاسرة، ولكنها مع ذلك لم تستطيع أن تنام وسيف الذل مسلطا على رقابها.
واستمرت المناوشات بين الطرفين، ففي سنة 1220هـ/1805م أغارت بعض فرسان العبيد على سبعين بيتا من الجربا فقتلوهم عن آخرهم واستولوا على خيامهم وأموالهم(89). ودام القتال الأخير بين شمر الجربا والعبيد وطي بالاتفاق مع عشيرة الصائح والبوحمدان مدة تسعين يوما، أشرك فيه والي بغداد علي باشا قوات من جيشه، وتقول الروايات أن شمر ألبست هؤلاء العثمانيين الملابس العربية لكي لا تنتقدها العشائر.
وفي سنة 1220هـ/1805م جرت آخر معركة بين العبيد والبوحمدان والصائح من جهة وبين شمر والقوات العثمانية من جهة أخرى، وعبر قسم من العبيد بزعامة علي بن حمد الظاهر ومعه قبيلة البوحمدان والصائح نهر دجلة، وكانت شمر وجيش الوالي تتعقبهم فغرق من النساء والأطفال حوالي ثلاثمائة، ومن سلم تلقفته عشائر شمر الجربا وقاتلوهم حتى سحقوهم ونهبوا خيامهم وأموالهم ومواشيهم. أما عرب العبيد فهاموا على وجوههم في القفار ومات منهم مئات جوعا وعطشاً(90). وقتل الأمير ضامن بن محمد الظاهر وابن أخيه سليمان بن أحمد بن محمد الظاهر.
نهاية إمارة العبيد الحميرية
على أثر هذه المعركة تشتت جموع الإمارة في عدة أماكن وأفل نجم أعظم إمارة حكمت جزيرة سنجار مدة تقارب الخمسة قرون، وانتشرت عشائر القبيلة كما يلي :
1- لجأ علي بن حمد الظاهر والقسم الأكبر من القبيلة إلى منطقة الحويجة موطن أفخاذ عدة من القبيلة منذ أمد بعيد.
2- استقر آل الشاوي في بغداد ومنطقة تكريت.
3- التجأت عشيرة البوحمد والبوسيف وآل الجبل إلى جبل سنجار.
4- التجأت عوائل عديدة من العبيد واستقرت في الموصل.
واصطدمت جموع العبيد في منطقة سنجار من البوحمد والبوسيف وآل الجبل بقيادة فندي الحمدي مع جموع شمر تعاضدهم القوات العثمانية، وحوصرت العبيد في منطقة الخان حيث أعمل فيهم الجيش العثماني وشمر القتل والذبح، وقتل أكثر من مائة نفس من العبيد، وعرفت هذه المذبحة باسم (ذبحة الحويش).
وفر أمين بن محمد بن أحمد الجبل إلى منطقة تكريت والحويجة، وتمكن مع جاسم الشاوي من تحشيد جموع العبيد مرة أخرى، واصطدما مع القوات العثمانية وشمر قرب المحلبية، قتل فيها أمين بن محمد بن أحمد الجبل، وفر جاسم الشاوي إلى منطقة عفك.
بعد هذه الحوادث استقر آل الجبل وبعض البورياش والبوسيف في منطقة (عرب كوي) شرق تلعفر، أما باقي العشائر فقد اتجهت الصائح إلى الحويجة وسكنتها، واتجهت طي إلى منطقة شمامك على الزاب، أما الجبور فقد سكنوا منطقة الخابور ثم انساحوا نحو الضفة الغربية من دجلة. وهكذا خلا الجو إلى شمر في الجزيرة، وتمت لها السيطرة على أطرافها ونواحيها، حتى آل بها الأمر إلى أن تفرض نوعاً من الضرائب يسمى (الخوّة)، تأخذها من كل عشيرة تنزل في منطقتها.
وقد استمر العداء بين شمر والعبيد خلال عصر المماليك عنيفاً، وامتد هذا النزاع إلى منتصف القرن العشرين، فكان من العوامل التي منحت باشوات بغداد فرصة ضرب شمر بالعبيد والعبيد بشمر، بدون أن يضعوا حلاً دائماً للمشكلة العشائرية، وبدون أن ينظروا في تنظيم حركات الهجرة العشائرية.
وفي سنة 1225هـ/1810م شاركت قبيلة العبيد بقيادة الشيخ علي الحمد مع عشائر طي برئاسة الشيخ فارس الحمد وعشائر شمامك وعلى رأسها ظاهر بن حسن الطائي. وكونت قوة كبيرة قوامها خمسة عشر ألف مقاتل من ضمنها قوات عبد الرحمن بابان الكردية تجمعت في كركوك، وبعد أن التحق بها البيات والغرير بدأت بالزحف على بغداد وعلى رأسها المبعوث السلطاني حالت أفندي، وفي معيته محمود باشا الجليلي وعبد الرحمن بابان وعبد الله أغا وطاهر أغا، لعزل الوالي