معركة الدجيل
كانت هذه الحادثة إيذاناً بقيام ثورة عارمة قادتها قبيلة العبيد بزعامة أمير العبيد علي بن حمد الظاهر، وخرج أولاد الأمير عبد الله بك الشاوي سليمان وسلطان وغيرهما وجميع أفراد القبيلة. اتفقوا معهم واعتضدوا بهم واحتشدوا في الدجيل، وكانوا قوة مهمة تستخدمهم الحكومة لتأديب العشائر، فشوشوا الوضع على الوالي وقطعوا الطرق وأحدثوا اضطراباً قوياً.
ولما سمع الوالي سارع للعودة إلى بغداد، وبالنظر لكثرة الجيش وأثقاله كان ينبغي أن يصل في مدة عشرين يوماً فقصّرها في ثمانية أيام. ودارت معركة ضارية بين قوات إمارة العبيد الثائرة لدم أميرها وبين قوات الوالي العثماني انتهت بانتصار الوالي، ومنيت قبيلة العبيد بخسارة فادحة في المال والرجال، حيث لقي عدد من أمراء القبيلة حتفهم منهم: الأمير حبيب بك الشاوي، والأمير ناصر بن أحمد بن محمد الظاهر، والأمير ظاهر بن نصيف الظاهر، والأمير علي بن فراس الظاهر، والأمير عساف بن حمد الظاهر، وأما الأمير سلطان بك الشاوي فقد انتحر
بإغماد خنجره في صدره من الغيظ(34).
تركت قبيلة العبيد منطقة الدجيل وتوغلت في مجاهل الجزيرة الفراتية في ثلاثة اتجاهات:
الأول بزعامة الأمير سليمان بك الشاوي الذي اختار منطقة الحضر وتل الرمّاح ملجأ له.
الثاني بزعامة أحمد بن محمد الظاهر الذي اختار جبل سنجار زبناً له، وكان معه من عشائر العبيد البوحمد والبوسيف، وبعض البيوتات من عشيرة الجحيش الزبيدية. ومن هنا لقّب أحمد بـ (الجبل) وعرف أولاده بـ (الجبلية) أو (آل الجبل).
الثالث بزعامة أمير العبيد علي بن حمد الظاهر ومعه معظم جموع القبيلة، حيث اتجه إلى منطقة الخابور. ورجع عبيد الأعظمية إلى دورهم بعد أن حصلوا على العفو من والي بغداد.
حوادث عجم محمد الفارسي
قتل الوالي عمر باشا سنة 1189هـ/ 1775م وخلفه قاتله مصطفى باشا الاسبيناقجي، فاستغلّت العشائر ضعفه وانهماكه في الأمور الشخصية وشقّت عصا الطاعة عليه، وأخذت تعبث في القرى والأرياف، وكثر النهب والقتل والغزو فيما بينها. فأرسل الباب العالي فرماناً(35) بتولية عبدي باشا بدله، ولم تدم ولايته سوى مدة أسبوع ثم أعطيت الولاية إلى عبد الله أغا قائد المماليك لترضيته. ولكنه عكف
على الملذات والفجور وسلّم إدارة البلاد إلى الفارسي عجم محمد(36) ومعه سليم
سري أفندي الذي أرسلته الدولة لاستنهاض همّة عبد الله باشا لمقاتلة العجم الذين
يحاصرون البصرة منذ مدة طويلة(37).
وفي هذه الفترة أرسل الأديب البصري عبد الله البيتوشي رسالة إلى سليمان بك الشاوي يستصرخه فيها نجدة البصرة لإيمانه بأنّ لا أحد يتمكن من ذلك غيره، ويورد عثمان بن سند في مطالع السعود عن تلك الرسالة(38): (( كتب البليغ الأديب وفارس الحماسة والنسيب والعالم العامل بعلمه والناظم الذي فخرت الأكراد بنظمه، معرّي مصره وسيبويه عصره عبد الله بن محمد الكردي البيتوشي الخانخلي الآلاني كتاباً جمع انسجام الألفاظ وجوامع المعاني إلى سليمان بن عبد الله بن شاوي الحميري العبيدي السَري بن السَري(39) بن السَري، لكونه إذ ذاك صدراً في العراق وبدراً في تلك الأرجاء والآفاق، يستصرخه فيه لنصرة البصرة وتخليصها من أدهم تلك العسرة، ذاكراً فيه ما للبصرة من الفضائل. لكن لمّا وصلت المالكة(40) سليمان، ووقعت به موقع السلسال(41) من الظمآن(42). رام النصرة فلم يكن له بها يدان)). ولم يستطع الشاوي تلبية طلب البصرة بسبب انشغاله بنصرة أهل بغداد ضدّ محاولة عجم محمد الفارسي الوصول إلى السلطة.
وتوفي عبد الله باشا فجأة سنة 1192هـ/ 1778م، فاتفق أولو الأمر ببغداد على تعيين سليم سري أفندي قائمقاماً (وكيلاً) لولاية بغداد إلى حين تعيين الوالي الجديد. وعلى أثر ذلك نشبت في المدينة معركة بين أنصار الكتخدا السابق إسماعيل أغا، وبين أنصار الكتخدا الحالي عجم محمد بك، وكان كلّ حزب يريد أن يكون زعيمه والياً على بغداد.
فحاول سليم سري قمع الفتنة وإعادة الأمن إلى نصابه، ففشل واستعر لهيب الفتنة، فاضطر وجهاء بغداد إلى دعوة سليمان بك الشاوي من (دشخرو) لإخماد الفتنة. ووصل الشاوي وأخذ يتوسط بين المتنازعين ودعاهم بالخلود إلى السكينة ريثما يتم الاختيار في جوّ هادئ(43).
وفي هذه الفترة كانت الحكومة قد أرسلت محمد بك الشاوي إلى إيران للتوسط حول فكّ الحصار عن البصرة، ويقول عثمان بن سند عن هذه الواقعة: (( فاتفق أهل عقد وحل دفعاً لما نزل من الخطب وحل، أن يطلبوا من كريم خان صلحه ليكفّ فساده وقبحه، فاختاروا لتسهيل هذا الصعب وتحليل عقد هذا الخطب محمد بن عبد الله بن شاوي الحميري إذ هو لدهائه وعقله لهذا الأمر حريّ، فتوجه على طرف سلهب(44) طاوياً لكلّ هوجل وسبسب(45) إلى شيراز. وألقى فيها من السفر عصيّه، وأخذ يروّض من ذلك الأمر عصيّه ويركب لإنتاجه كلّ مقدمة وقضية. فلمّا فاوض ذلك الزندي علم بسبره ما يخفي ويبدي، ووجد به الزندي ألمعياً وخريتاً(46) في سباسب(47) الآراء ذكياً، وضاعف لذلك برّه ورآه في وجه عصره غرّة. ولكن لمّا عرض له في أسرى البصرة أبدى الاشمئزاز عن فكّهم والنفرة قائلاً: إنّ إطلاق هؤلاء الأنجاد دونه خرط القتاد(48)، ولكن لكرامتك لدينا وعزة قدرك علينا نعدك بالإطلاق إذا تم مع السلطان الاتفاق، ونطلق تنويهاً بقدرك وزيادة في إكرامك وبرّك من تحت أيدينا من الأكراد ونرجع السيوف إلى الأغماد))(49).
وعند عودة محمد بك الشاوي إلى بغداد ومعه المتفاوض الإيراني حيدر خان، وهما يحملان كتاباً مختوماً إلى عبد الله باشا الوالي فيه الخطوط الأساسية لشرط المعاهدة المزمع عقدها بين الطرفين، (( فوجد أنّ الفتنة فيها مستعرة والقتال دائراً نتيجة مكائد عجم محمد ومفاسده، فرأى الوالي برأيه الصائب أن يرسل إلى كلّ ذي سنان وقاضب(50) من آل عبيد سلالة حمير وعلالة تبّع الأصغر والأكبر. فأرسل محمد بن عبد الله بن شاوي إليهم لكونه من الصدور والأمراء عليهم، ولمّا وصلهم منه الرسول أنعموا بالإجابة والقبول، فأقبلوا هابة عليهم للنصر القبول معتقلين كلّ عِسال(51) متقلدين كلّ قصال(52) ممتطين كلّ طرف مقتفين بأيّ طرف))(53).
وألّف سليمان الشاوي بين النجّادة(54) والموصليين في الكرخ فاستخدمهم لتقوية الجهات الضعيفة، وجمعهم في خان جغان وقام بكافة مصاريفهم، فكثرت جماعته واستعمل كلّ جانب ما لديه من قوة فطالت الفتنة خمسة أشهر(55).
وفي سنة 1192هـ/ 1778م صدر الفرمان السلطاني بتولية حسن باشا والي شهرزور في بغداد، فاستقرّت الحالة بعض الشيء وبصورة مؤقتة. ولما تأخر قدوم الوالي الجديد إلى بغداد فقد أسندت الوكالة إلى محمد بك الشاوي. غير أنّ عجم محمد انتهز الفرصة فأخذ ينشر الإشاعات والفتن داخل المدينة، وأغرى كثيراً من الناس على الانتصار له، والتفّ حوله جماعة كبيرة من الانتهازيين وخرج بهم من بغداد وعسكر في ضواحيها، فألقى الحصار على بغداد واضطرب سكانها في الداخل وفقد الأمن فيها، وأخذ اللصوص يرتعون فيها ويهجمون على دورها ليلاً ونهاراً. ثم تم التوسط لدى وكيل الوالي وحضر عجم محمد وحبس، ولكنّ وجوه محلة الميدان تكفّلوه حتى يصل الوالي الجديد، فأطلق سراحه وأسكن في القلعة مخفوراً(56).
كان أحمد أغا بن محمد خليل مستخدماً عند عمر باشا الوالي السابق برتبة رئيس الأغوات، ثم أنه غضب عليه لقصور بدر منه فعزله من منصبه وطرده، فذهب إلى عبد الله باشا الوالي اللاحق ودخل خدمته. وبعد أن توفي عبد الله باشا أعلن أحمد عدم اعتداده بحكومة بغداد الجديدة، وألّف عصابة من المجرمين واتخذ مركزاً لقيادة عصابته الكبيرة محلاّ بالقرب من بعقوبة. وزاد من أنصاره عدداً وأصبح يهدد بغداد تهديداً جدياً. وقبل وصول والي بغداد الجديد حسن باشا أفلح عجم محمد في الإفلات من القلعة التي حبس فيها بمساعدة أتباعه، والتحق هو ومؤيدوه بعصابة أحمد أغا واتفقا على أعمال الشقاوة وأوغلا في النهب والقتل وشنّ الغارات على القرى الواقعة شرقي بغداد، وعجزت الحكومة من إخضاعهما(57).
وبتسلّم حسن باشا مقاليد الحكم أسرع بتجهيز جيش بقيادة الكتخدا عثمان بك، وأرسله للقضاء على عصابات المتمردين، وقبل أن يتحرك الكتخدا عثمان لمقابلة العصاة أوصل أهالي الميدان خبر تحركه إلى عجم محمد، فما كان منه إلاّ أن يستعدّ للأمر وينقضّ على قوات الكتخدا قبل أن تخف لنجدته خيالة العبيد، فعاد إلى بغداد ومعه حوالي 15خيالاً(58).
وعلى أثر ذلك استنجد حسن باشا بأحمد باشا الباباني رئيس قبائل البابان الكردية وشدد عليه على بوجوب الإسراع في القدوم، فغادر كردستان متجها إلى بغداد، ولكنه توفي في الطريق، وخلفه شقيقه محمود باشا، وبوصوله تكون لحسن باشا جيش كثيف يتألف من أربعة فيالق:
1- عشيرة العبيد بقيادة محمد بك الشاوي.
2- جيش الأكراد بقيادة محمود باشا الباباني.
3- عسكر بغداد بقيادة الكتخدا عثمان بك.
4- عشيرة العكيل (العقيل).
كانت هذه الحادثة إيذاناً بقيام ثورة عارمة قادتها قبيلة العبيد بزعامة أمير العبيد علي بن حمد الظاهر، وخرج أولاد الأمير عبد الله بك الشاوي سليمان وسلطان وغيرهما وجميع أفراد القبيلة. اتفقوا معهم واعتضدوا بهم واحتشدوا في الدجيل، وكانوا قوة مهمة تستخدمهم الحكومة لتأديب العشائر، فشوشوا الوضع على الوالي وقطعوا الطرق وأحدثوا اضطراباً قوياً.
ولما سمع الوالي سارع للعودة إلى بغداد، وبالنظر لكثرة الجيش وأثقاله كان ينبغي أن يصل في مدة عشرين يوماً فقصّرها في ثمانية أيام. ودارت معركة ضارية بين قوات إمارة العبيد الثائرة لدم أميرها وبين قوات الوالي العثماني انتهت بانتصار الوالي، ومنيت قبيلة العبيد بخسارة فادحة في المال والرجال، حيث لقي عدد من أمراء القبيلة حتفهم منهم: الأمير حبيب بك الشاوي، والأمير ناصر بن أحمد بن محمد الظاهر، والأمير ظاهر بن نصيف الظاهر، والأمير علي بن فراس الظاهر، والأمير عساف بن حمد الظاهر، وأما الأمير سلطان بك الشاوي فقد انتحر
بإغماد خنجره في صدره من الغيظ(34).
تركت قبيلة العبيد منطقة الدجيل وتوغلت في مجاهل الجزيرة الفراتية في ثلاثة اتجاهات:
الأول بزعامة الأمير سليمان بك الشاوي الذي اختار منطقة الحضر وتل الرمّاح ملجأ له.
الثاني بزعامة أحمد بن محمد الظاهر الذي اختار جبل سنجار زبناً له، وكان معه من عشائر العبيد البوحمد والبوسيف، وبعض البيوتات من عشيرة الجحيش الزبيدية. ومن هنا لقّب أحمد بـ (الجبل) وعرف أولاده بـ (الجبلية) أو (آل الجبل).
الثالث بزعامة أمير العبيد علي بن حمد الظاهر ومعه معظم جموع القبيلة، حيث اتجه إلى منطقة الخابور. ورجع عبيد الأعظمية إلى دورهم بعد أن حصلوا على العفو من والي بغداد.
حوادث عجم محمد الفارسي
قتل الوالي عمر باشا سنة 1189هـ/ 1775م وخلفه قاتله مصطفى باشا الاسبيناقجي، فاستغلّت العشائر ضعفه وانهماكه في الأمور الشخصية وشقّت عصا الطاعة عليه، وأخذت تعبث في القرى والأرياف، وكثر النهب والقتل والغزو فيما بينها. فأرسل الباب العالي فرماناً(35) بتولية عبدي باشا بدله، ولم تدم ولايته سوى مدة أسبوع ثم أعطيت الولاية إلى عبد الله أغا قائد المماليك لترضيته. ولكنه عكف
على الملذات والفجور وسلّم إدارة البلاد إلى الفارسي عجم محمد(36) ومعه سليم
سري أفندي الذي أرسلته الدولة لاستنهاض همّة عبد الله باشا لمقاتلة العجم الذين
يحاصرون البصرة منذ مدة طويلة(37).
وفي هذه الفترة أرسل الأديب البصري عبد الله البيتوشي رسالة إلى سليمان بك الشاوي يستصرخه فيها نجدة البصرة لإيمانه بأنّ لا أحد يتمكن من ذلك غيره، ويورد عثمان بن سند في مطالع السعود عن تلك الرسالة(38): (( كتب البليغ الأديب وفارس الحماسة والنسيب والعالم العامل بعلمه والناظم الذي فخرت الأكراد بنظمه، معرّي مصره وسيبويه عصره عبد الله بن محمد الكردي البيتوشي الخانخلي الآلاني كتاباً جمع انسجام الألفاظ وجوامع المعاني إلى سليمان بن عبد الله بن شاوي الحميري العبيدي السَري بن السَري(39) بن السَري، لكونه إذ ذاك صدراً في العراق وبدراً في تلك الأرجاء والآفاق، يستصرخه فيه لنصرة البصرة وتخليصها من أدهم تلك العسرة، ذاكراً فيه ما للبصرة من الفضائل. لكن لمّا وصلت المالكة(40) سليمان، ووقعت به موقع السلسال(41) من الظمآن(42). رام النصرة فلم يكن له بها يدان)). ولم يستطع الشاوي تلبية طلب البصرة بسبب انشغاله بنصرة أهل بغداد ضدّ محاولة عجم محمد الفارسي الوصول إلى السلطة.
وتوفي عبد الله باشا فجأة سنة 1192هـ/ 1778م، فاتفق أولو الأمر ببغداد على تعيين سليم سري أفندي قائمقاماً (وكيلاً) لولاية بغداد إلى حين تعيين الوالي الجديد. وعلى أثر ذلك نشبت في المدينة معركة بين أنصار الكتخدا السابق إسماعيل أغا، وبين أنصار الكتخدا الحالي عجم محمد بك، وكان كلّ حزب يريد أن يكون زعيمه والياً على بغداد.
فحاول سليم سري قمع الفتنة وإعادة الأمن إلى نصابه، ففشل واستعر لهيب الفتنة، فاضطر وجهاء بغداد إلى دعوة سليمان بك الشاوي من (دشخرو) لإخماد الفتنة. ووصل الشاوي وأخذ يتوسط بين المتنازعين ودعاهم بالخلود إلى السكينة ريثما يتم الاختيار في جوّ هادئ(43).
وفي هذه الفترة كانت الحكومة قد أرسلت محمد بك الشاوي إلى إيران للتوسط حول فكّ الحصار عن البصرة، ويقول عثمان بن سند عن هذه الواقعة: (( فاتفق أهل عقد وحل دفعاً لما نزل من الخطب وحل، أن يطلبوا من كريم خان صلحه ليكفّ فساده وقبحه، فاختاروا لتسهيل هذا الصعب وتحليل عقد هذا الخطب محمد بن عبد الله بن شاوي الحميري إذ هو لدهائه وعقله لهذا الأمر حريّ، فتوجه على طرف سلهب(44) طاوياً لكلّ هوجل وسبسب(45) إلى شيراز. وألقى فيها من السفر عصيّه، وأخذ يروّض من ذلك الأمر عصيّه ويركب لإنتاجه كلّ مقدمة وقضية. فلمّا فاوض ذلك الزندي علم بسبره ما يخفي ويبدي، ووجد به الزندي ألمعياً وخريتاً(46) في سباسب(47) الآراء ذكياً، وضاعف لذلك برّه ورآه في وجه عصره غرّة. ولكن لمّا عرض له في أسرى البصرة أبدى الاشمئزاز عن فكّهم والنفرة قائلاً: إنّ إطلاق هؤلاء الأنجاد دونه خرط القتاد(48)، ولكن لكرامتك لدينا وعزة قدرك علينا نعدك بالإطلاق إذا تم مع السلطان الاتفاق، ونطلق تنويهاً بقدرك وزيادة في إكرامك وبرّك من تحت أيدينا من الأكراد ونرجع السيوف إلى الأغماد))(49).
وعند عودة محمد بك الشاوي إلى بغداد ومعه المتفاوض الإيراني حيدر خان، وهما يحملان كتاباً مختوماً إلى عبد الله باشا الوالي فيه الخطوط الأساسية لشرط المعاهدة المزمع عقدها بين الطرفين، (( فوجد أنّ الفتنة فيها مستعرة والقتال دائراً نتيجة مكائد عجم محمد ومفاسده، فرأى الوالي برأيه الصائب أن يرسل إلى كلّ ذي سنان وقاضب(50) من آل عبيد سلالة حمير وعلالة تبّع الأصغر والأكبر. فأرسل محمد بن عبد الله بن شاوي إليهم لكونه من الصدور والأمراء عليهم، ولمّا وصلهم منه الرسول أنعموا بالإجابة والقبول، فأقبلوا هابة عليهم للنصر القبول معتقلين كلّ عِسال(51) متقلدين كلّ قصال(52) ممتطين كلّ طرف مقتفين بأيّ طرف))(53).
وألّف سليمان الشاوي بين النجّادة(54) والموصليين في الكرخ فاستخدمهم لتقوية الجهات الضعيفة، وجمعهم في خان جغان وقام بكافة مصاريفهم، فكثرت جماعته واستعمل كلّ جانب ما لديه من قوة فطالت الفتنة خمسة أشهر(55).
وفي سنة 1192هـ/ 1778م صدر الفرمان السلطاني بتولية حسن باشا والي شهرزور في بغداد، فاستقرّت الحالة بعض الشيء وبصورة مؤقتة. ولما تأخر قدوم الوالي الجديد إلى بغداد فقد أسندت الوكالة إلى محمد بك الشاوي. غير أنّ عجم محمد انتهز الفرصة فأخذ ينشر الإشاعات والفتن داخل المدينة، وأغرى كثيراً من الناس على الانتصار له، والتفّ حوله جماعة كبيرة من الانتهازيين وخرج بهم من بغداد وعسكر في ضواحيها، فألقى الحصار على بغداد واضطرب سكانها في الداخل وفقد الأمن فيها، وأخذ اللصوص يرتعون فيها ويهجمون على دورها ليلاً ونهاراً. ثم تم التوسط لدى وكيل الوالي وحضر عجم محمد وحبس، ولكنّ وجوه محلة الميدان تكفّلوه حتى يصل الوالي الجديد، فأطلق سراحه وأسكن في القلعة مخفوراً(56).
كان أحمد أغا بن محمد خليل مستخدماً عند عمر باشا الوالي السابق برتبة رئيس الأغوات، ثم أنه غضب عليه لقصور بدر منه فعزله من منصبه وطرده، فذهب إلى عبد الله باشا الوالي اللاحق ودخل خدمته. وبعد أن توفي عبد الله باشا أعلن أحمد عدم اعتداده بحكومة بغداد الجديدة، وألّف عصابة من المجرمين واتخذ مركزاً لقيادة عصابته الكبيرة محلاّ بالقرب من بعقوبة. وزاد من أنصاره عدداً وأصبح يهدد بغداد تهديداً جدياً. وقبل وصول والي بغداد الجديد حسن باشا أفلح عجم محمد في الإفلات من القلعة التي حبس فيها بمساعدة أتباعه، والتحق هو ومؤيدوه بعصابة أحمد أغا واتفقا على أعمال الشقاوة وأوغلا في النهب والقتل وشنّ الغارات على القرى الواقعة شرقي بغداد، وعجزت الحكومة من إخضاعهما(57).
وبتسلّم حسن باشا مقاليد الحكم أسرع بتجهيز جيش بقيادة الكتخدا عثمان بك، وأرسله للقضاء على عصابات المتمردين، وقبل أن يتحرك الكتخدا عثمان لمقابلة العصاة أوصل أهالي الميدان خبر تحركه إلى عجم محمد، فما كان منه إلاّ أن يستعدّ للأمر وينقضّ على قوات الكتخدا قبل أن تخف لنجدته خيالة العبيد، فعاد إلى بغداد ومعه حوالي 15خيالاً(58).
وعلى أثر ذلك استنجد حسن باشا بأحمد باشا الباباني رئيس قبائل البابان الكردية وشدد عليه على بوجوب الإسراع في القدوم، فغادر كردستان متجها إلى بغداد، ولكنه توفي في الطريق، وخلفه شقيقه محمود باشا، وبوصوله تكون لحسن باشا جيش كثيف يتألف من أربعة فيالق:
1- عشيرة العبيد بقيادة محمد بك الشاوي.
2- جيش الأكراد بقيادة محمود باشا الباباني.
3- عسكر بغداد بقيادة الكتخدا عثمان بك.
4- عشيرة العكيل (العقيل).