إن أول ما نعلمه عن منطقة الأرض التي تقع « الكاظمية » اليوم في طرفها الشرقي أنّها كانت ـ برواية بعض المؤرخين ـ جزءاً قريباً من الحدود الفاصلة بين دولة الآشوريين من شمالها والكيشيين من الجنوب، في العصور البابلية الأولى، أي قبل الميلاد ببضعة عشر قرناً، ويُروى أن منازعات وحروباً قد وقعت فيها أو قريباً منها بين الدولتين.
والظاهر أن هذه المنطقة قد حَظِيَت ـ لسبب أو لآخر ـ باهتمام خاص من حكومة الكيشيين، حيث نجد أن الملك كوريكالزو ملك الكيشيين يومئذٍ قد بالغ في العناية بهذا الجزء من وقعة مُلكه ببنائه لمدينة « عَقرقُوف » العظيمة التي كانت تسمّى حينذاك «دور ـ كوريكالزو». ولا تزال آثارها باقية حتّى اليوم في جوار الكاظمية على نحو ستّة أميال عنها من جهة الغرب، وهي تنطق بالمهارة الفائقة المبذولة في بناء هذه المدينة الكبيرة وصرحها الشاهق.
وتدلّنا ضخامة أبنية المدينة وجودة بنائها والإسراف فيه على أنّها ظلت مأهولة بالسكان حيناً طويلاً من الدهر، ويُرجَّح كثيراً أنّها كانت عاصمة السلالة الكيشية منذ بداية القرن الخامس عشر قبل الميلاد وإلى نهاية تلك السلالة.والكيشيون هم أسلاف الأكراد في العراق حكموا خمسة قرون بعد انهيار الدولة البابلية الأولى حتى سقوطهم على يد الأشوريون.
وهكذا تظل « عَقرقُوف » هي الأثر الأول الذي وصل إلينا علمُه في أصل الأرض التي سمّيت بعض أطرافها بـ « مقابر قريش » ثمّ « مشهد باب التِّبن » ثمّ « المشهد الكاظمي » فـ « الكاظمية » بعد ذلك بعشرات القرون.
وبقيت هذه الأرض مجهولة الحقيقة في العهود التالية للعهد الكيشي كالعهد السلوقي والأخميني والفرثي والساساني، وإن رجح في أكثر الظن أنّها كانت غير خالية من الحياة والسكان ولو لغرض الزراعة في الأقل.
ويتضح من دراسة الأنهار والقرى والمدن المحيطة بدجلة، ابتداءً من « دور ـ كوريكالزو » في الشمال الغربي حتّى « المدائن » في الجنوب الشرقي: أن المنطقة التي شَيّد المنصور مدينته عليها ـ وهي منطقة بغداد بجانبها الغربي والشرقي ـ كانت عامرة برِيّها ومزارعها منذ أقدم العصور.
وأرض الكاظمية الحالية كانت جزءاً من هذه المنطقة العامرة الخضراء بلا شك، وإن لم نكن نعرف شيئاً من تفصيل ذلك.
وترشدنا كتب البلدان إلى أن القرى والمدن الواقعة جنوب أرض الكاظمية وشرقيّها وجنوبها الغربي ـ قبل الإسلام ـ كانت كثيرة متعددة، تتسلسل وتتلاحق حتّى تصل إلى مدينة « المدائن » الضخمة شرقيّ دجلة و « سلوقية » الكبرى غربيّها، وكلتا المدينتين الأخيرتين عاصمة كبيرة لدولة كبيرة، وتُعَدّان من العواصم الفخمة الرائعة في تلك العهود.
ومن أقرب تلك القرى إلى أرض الكاظمية قرية « سوانا » التي كانت واقعة في الجنوب الشرقي للكاظمية الحالية، وهي « قرية قديمة... ينسب إليها العنب الأسود الذي يتقدّم ويُبكّر على سائر العنب مَجْناه، ولما عمرت بغداد دخلت هذه القرية لعلي بن أبي طالب « رضي الله عنه » يعرف بمشهد المنطقة (1). وما زالت تسمى حتّى اليوم بـ « المنطقة » بين الكاظمية والكرخ.
وآخر عهدنا بأرض الكاظمية قبل تأسيس بغداد أنّها كانت تُسمّى « الشُّونيزي »، فإن صدقت الرواية فمقتضاها أن هذه التسمية قد أُطلِقت بعد انتهاء العهد الساساني، لأن التسمية عربية، والشونيز في اللغة هو الحبّة السوداء، والنسبة إليها شونيزي.
يروي الخطيب البغدادي ما سمعه بصدد هذه التسمية فيقول: « سمعتُ بعض شيوخنا يقول: مقابر قريش كانت قديماً تعرف بمقبرة الشونيزي الصغير، والمقبرة التي وراء التوثة تعرف بمقبرة الشونيزي الكبير، أخَوان يقال لكل واحد منهما ـ الشونيزي ـ فدفن كل واحد منهما في إحدى هاتين المقبرتين ونُسبت المقبرة إليه.
ويستفاد من روايات بعض المؤرخين أن المنطقة المجاورة لموضع الكاظمية من جهة الشرق كانت قبل إنشاء مدينة المنصور بستاناً لبعض ملوك فارس، ثمّ أقطعها المنصورُ عمارةَ بن حمزة أحد مَواليه، فسُمّيت دار عمارة.
في القرن الرابع
وفي أوائل القرن الرابع كانت المنازل حول مقابر قريش كثيرة، وكان بعض تلك المنازل مشتملاً على حُجَر ولكل حُجرة باب أو أكثر، ويرشدنا إلى ذلك ما رواه مسكويه في حوادث سنة 312 هـ.
وفي عام 334 هـ سيطر معزّ الدولة البُويهي على أزمّة الحكم في بغداد، وكان من جملة أعماله خلال أيّام ملكه: تشييد المرقد الكاظمي تشييداً رائعاً في عمارته وإنزال جماعة من الجنود الديالمة ومعهم أفراد من المراوزة هناك لغرض الخدمة والحفاظ على الأمن. وكان ذلك سبباً جديداً وذا أهمية في توسع السكن وانتشار الدُّور حول المشه.
وكان من جملة آثار استتباب الأمن في العهد البويهي والتصاق ـ أو اندماج ـ مقابر قريش ببغداد: ذهاب الناس في أعداد غفيرة إليها في الجمعات والمواسم والمناسبات الدينية. ولابد أنّه كان في المشهد وحوله من محلات الراحة والأكل والشرب والوقاية من البرد والمطر وشمس الصيف ما يناسب تلك الأعداد الضخمة التي كانت تُهرَع إلى المشهد في كل مناسبة دينية، كذكرى عيد الغدير وذكرى مقتل الإمام الحسين عليه السّلام يوم عاشوراء وفيما شابه ذلك من المناسبات.
وفي سنة 367 هـ أصيبت البلدة بالغرق، ولم تصلنا تفاصيل ذلك.
وفي النصف الثاني من القرن الرابع تأصّل السكن في هذه المدينة حتّى صحّ أن يُطلَق على المقيمين هناك اسم السكّان، كما حدث عندما أمر عضد الدولة البويهي بإطلاق الصِّلات لأهل الشرف وغيرهم من ذوي الفاقة.
وكان من أسباب ازدياد العمران في هذه المدينة الناشئة أن أبا طاهر سباشي الملقب بالسعيد حاجب شرف الدولة بن عضد الدولة قام بحفر ذُنابة لنهر دُجَيل وسَوق الماء منها إلى مشهد موسى بن جعفر عليه السّلام، وكان ذلك ما بين عام 376 ـ 379 هـ وهي أعوام مَكْث شرف الدولة ببغداد.
في القرن الخامس
ويستفاد من النصوص التاريخية المتعلقة بتلك الفترة تَزايدُ السكان حول المشهد في أواسط القرن الخامس، وإن كثيراً منهم من العلويين، كما يستفاد منها أيضاً وجود دور للسكنى داخل سور المشهد ودور خارجه. جاء في رواية ابن الجوزي في حوادث سنة 450 هـ ما نصه: « وحُمل الخليفة إلى المشهد بمقابر قريش وقيل له: تبيت فيها، فامتنع وقال: هؤلاء العلويون الذين بها يُعادوني ».وفي غرق سنة 466 هـ ـ وكان بالِغَ الخطر ـ تَهدّم سُور المشهد، وتقضي العادة بتأثر ما يحيط بالمشهد من الدور بالماء، ولكننا لم نعرف تفصيله.
في القرن السادس
في فتنة 517 هـ جاء العلويون الساكنون حول المشهد إلى ديوان الخليفة يشكون ما أصابهم وأصاب المشهد، وهو الأمر الذي يدل على سكنى عدد كبير منهم هناك.وتأثرت بلدة المشهد الكاظمي بغرق سنة 554 هـ، ثمّ بغرق سنة 569 هـ، وكان الغرق الثاني شديداً جداً أدى إلى هدم البيوت وأكثر سور المشهد.والظاهر أن البلدة قد أصبحت مأهولة بالسكان بنحو يصح أن يقال فيه: « أهل مشهد موسى بن جعفر »، كما يقال: « أهل الكرخ » أو « أهل المختارة »، وكانوا كثيري العدد. ويروى أن نائب الوزارة ابن العطار أساء إليهم بقسوة بالغة وقطع أرزاقهم وبدد شملهم.
في القرن السابع
ولما حدث فيضان سنة 614 هـ أثَّر في المشهد ومدينته أثراً بالغاً، فقام الناصر لدين الله بتعمير ما خرّبه الماء كما شيَّد سوراً جديداً للمشهد.وعندما حدث فيضان سنة 646 هـ ـ وكان فظيعاً جداً ـ أثَّر في مدينة المشهد أثراً كبيراً، وكذلك فيضان سنة 654 هـ.
في الغزو المغولي
في الشهر الأول من عام 656 هـ حاصر الجيش المغولي بغداد، وتم احتلالها يوم الاثنين الثامن عشر من المحرم أو بعد ذلك بأيّام، ورافق هذا الاحتلال عدد من حوادث التخريب والتلف وضروب من المصائب والنكبات.وعلى الغرم من خروج بلدة المشهد الكاظمي عن خط زحف الجيش المحتل وعدم وجود أية قوة عسكرية عباسية فيها، فقد أُصيبت بشيء من ذلك الخراب العام، كما أصيب المشهد نفسه بالحريق. وسارع الوزير ابن العلقمي إلى الأمر بإصلاح ما تلف وتجديد ما اندثر من البلدة، كما قام صدر الوقوف شهاب الدين علي بن عبدالله بعمارة ما أتلفه الحريق في المشهد المطهر.
في القرن الثامن
ما أن أصل القرن الثامن حتّى كانت المدينة قد سارت أشواطاً في طريق تقدمها، عاجّةً بسكانها، صاخبةً بزوّارها القادمين إليها. يصفها حمد الله المستوفي ـ في أوائل القرن الثامن ـ فيقول: إنها مدينة صغيرة يبلغ طول محيطها آلاف خطوة، وأن سكانها ستة ألاف نسمة.
ويشير إليها صلاح الدين الصَّفَدي في أثناء حديثه عن بغداد ومحلاتها السبعة، فيعتبرها خامسةَ تلك المحلات وأنها مسوّرة.
أما الحنبلي فيذكر أنّها « محلة فيها خلق كثير، وعليها سور ».وبدأ استعمال لقب « كاظمي » في هذه الفترة، حيث جاء في ترجمة السيّد عبدالكريم آل طاووس ـ وهو من سكان الكاظمية في أواخر القرن السابع ـ أنّه « حلّي المنشأ، بغدادي التحصيل، كاظمي الخاتمة ».والمؤسف أن تظل معلوماتنا عن هذه الفترة وما طرأ على الكاظمية خلالها ضئيلة جداً، بل بحكم الاعدام.
في القرن العاشر
وفي أوائل القرن العاشر الهجري دخلت الكاظمية عهداً جديداً من الشأن والاستقلال الإداري الداخلي، وأصبحت مدينة لها كيانها ودورها في الشؤون العامة.
وبدأت الخطوة الأولى نحو هذا العهد الجديد في سنة 914 هـ ـ وهي سنة سيطرة الصفويين على العراق ـ فقد زار الشاه إسماعيل الصفوي الكاظمية وأمر بتشكيل إدارة خاصة بالبلدة ومحكمة شرعية يرأسها قاضٍ يحمل لقب « شيخ الإسلام »، وقد عيَّن الشيخ عبدالله قنديل بهذا المنصب. كما أمر الشاه بتشييد المشهد الكاظمي تشييداً رائعاً فخماً، وتعيين الرواتب لخدام المشهد والمسؤولين عنه.
والظاهر أن هذه المنطقة قد حَظِيَت ـ لسبب أو لآخر ـ باهتمام خاص من حكومة الكيشيين، حيث نجد أن الملك كوريكالزو ملك الكيشيين يومئذٍ قد بالغ في العناية بهذا الجزء من وقعة مُلكه ببنائه لمدينة « عَقرقُوف » العظيمة التي كانت تسمّى حينذاك «دور ـ كوريكالزو». ولا تزال آثارها باقية حتّى اليوم في جوار الكاظمية على نحو ستّة أميال عنها من جهة الغرب، وهي تنطق بالمهارة الفائقة المبذولة في بناء هذه المدينة الكبيرة وصرحها الشاهق.
وتدلّنا ضخامة أبنية المدينة وجودة بنائها والإسراف فيه على أنّها ظلت مأهولة بالسكان حيناً طويلاً من الدهر، ويُرجَّح كثيراً أنّها كانت عاصمة السلالة الكيشية منذ بداية القرن الخامس عشر قبل الميلاد وإلى نهاية تلك السلالة.والكيشيون هم أسلاف الأكراد في العراق حكموا خمسة قرون بعد انهيار الدولة البابلية الأولى حتى سقوطهم على يد الأشوريون.
وهكذا تظل « عَقرقُوف » هي الأثر الأول الذي وصل إلينا علمُه في أصل الأرض التي سمّيت بعض أطرافها بـ « مقابر قريش » ثمّ « مشهد باب التِّبن » ثمّ « المشهد الكاظمي » فـ « الكاظمية » بعد ذلك بعشرات القرون.
وبقيت هذه الأرض مجهولة الحقيقة في العهود التالية للعهد الكيشي كالعهد السلوقي والأخميني والفرثي والساساني، وإن رجح في أكثر الظن أنّها كانت غير خالية من الحياة والسكان ولو لغرض الزراعة في الأقل.
ويتضح من دراسة الأنهار والقرى والمدن المحيطة بدجلة، ابتداءً من « دور ـ كوريكالزو » في الشمال الغربي حتّى « المدائن » في الجنوب الشرقي: أن المنطقة التي شَيّد المنصور مدينته عليها ـ وهي منطقة بغداد بجانبها الغربي والشرقي ـ كانت عامرة برِيّها ومزارعها منذ أقدم العصور.
وأرض الكاظمية الحالية كانت جزءاً من هذه المنطقة العامرة الخضراء بلا شك، وإن لم نكن نعرف شيئاً من تفصيل ذلك.
وترشدنا كتب البلدان إلى أن القرى والمدن الواقعة جنوب أرض الكاظمية وشرقيّها وجنوبها الغربي ـ قبل الإسلام ـ كانت كثيرة متعددة، تتسلسل وتتلاحق حتّى تصل إلى مدينة « المدائن » الضخمة شرقيّ دجلة و « سلوقية » الكبرى غربيّها، وكلتا المدينتين الأخيرتين عاصمة كبيرة لدولة كبيرة، وتُعَدّان من العواصم الفخمة الرائعة في تلك العهود.
ومن أقرب تلك القرى إلى أرض الكاظمية قرية « سوانا » التي كانت واقعة في الجنوب الشرقي للكاظمية الحالية، وهي « قرية قديمة... ينسب إليها العنب الأسود الذي يتقدّم ويُبكّر على سائر العنب مَجْناه، ولما عمرت بغداد دخلت هذه القرية لعلي بن أبي طالب « رضي الله عنه » يعرف بمشهد المنطقة (1). وما زالت تسمى حتّى اليوم بـ « المنطقة » بين الكاظمية والكرخ.
وآخر عهدنا بأرض الكاظمية قبل تأسيس بغداد أنّها كانت تُسمّى « الشُّونيزي »، فإن صدقت الرواية فمقتضاها أن هذه التسمية قد أُطلِقت بعد انتهاء العهد الساساني، لأن التسمية عربية، والشونيز في اللغة هو الحبّة السوداء، والنسبة إليها شونيزي.
يروي الخطيب البغدادي ما سمعه بصدد هذه التسمية فيقول: « سمعتُ بعض شيوخنا يقول: مقابر قريش كانت قديماً تعرف بمقبرة الشونيزي الصغير، والمقبرة التي وراء التوثة تعرف بمقبرة الشونيزي الكبير، أخَوان يقال لكل واحد منهما ـ الشونيزي ـ فدفن كل واحد منهما في إحدى هاتين المقبرتين ونُسبت المقبرة إليه.
ويستفاد من روايات بعض المؤرخين أن المنطقة المجاورة لموضع الكاظمية من جهة الشرق كانت قبل إنشاء مدينة المنصور بستاناً لبعض ملوك فارس، ثمّ أقطعها المنصورُ عمارةَ بن حمزة أحد مَواليه، فسُمّيت دار عمارة.
في القرن الرابع
وفي أوائل القرن الرابع كانت المنازل حول مقابر قريش كثيرة، وكان بعض تلك المنازل مشتملاً على حُجَر ولكل حُجرة باب أو أكثر، ويرشدنا إلى ذلك ما رواه مسكويه في حوادث سنة 312 هـ.
وفي عام 334 هـ سيطر معزّ الدولة البُويهي على أزمّة الحكم في بغداد، وكان من جملة أعماله خلال أيّام ملكه: تشييد المرقد الكاظمي تشييداً رائعاً في عمارته وإنزال جماعة من الجنود الديالمة ومعهم أفراد من المراوزة هناك لغرض الخدمة والحفاظ على الأمن. وكان ذلك سبباً جديداً وذا أهمية في توسع السكن وانتشار الدُّور حول المشه.
وكان من جملة آثار استتباب الأمن في العهد البويهي والتصاق ـ أو اندماج ـ مقابر قريش ببغداد: ذهاب الناس في أعداد غفيرة إليها في الجمعات والمواسم والمناسبات الدينية. ولابد أنّه كان في المشهد وحوله من محلات الراحة والأكل والشرب والوقاية من البرد والمطر وشمس الصيف ما يناسب تلك الأعداد الضخمة التي كانت تُهرَع إلى المشهد في كل مناسبة دينية، كذكرى عيد الغدير وذكرى مقتل الإمام الحسين عليه السّلام يوم عاشوراء وفيما شابه ذلك من المناسبات.
وفي سنة 367 هـ أصيبت البلدة بالغرق، ولم تصلنا تفاصيل ذلك.
وفي النصف الثاني من القرن الرابع تأصّل السكن في هذه المدينة حتّى صحّ أن يُطلَق على المقيمين هناك اسم السكّان، كما حدث عندما أمر عضد الدولة البويهي بإطلاق الصِّلات لأهل الشرف وغيرهم من ذوي الفاقة.
وكان من أسباب ازدياد العمران في هذه المدينة الناشئة أن أبا طاهر سباشي الملقب بالسعيد حاجب شرف الدولة بن عضد الدولة قام بحفر ذُنابة لنهر دُجَيل وسَوق الماء منها إلى مشهد موسى بن جعفر عليه السّلام، وكان ذلك ما بين عام 376 ـ 379 هـ وهي أعوام مَكْث شرف الدولة ببغداد.
في القرن الخامس
ويستفاد من النصوص التاريخية المتعلقة بتلك الفترة تَزايدُ السكان حول المشهد في أواسط القرن الخامس، وإن كثيراً منهم من العلويين، كما يستفاد منها أيضاً وجود دور للسكنى داخل سور المشهد ودور خارجه. جاء في رواية ابن الجوزي في حوادث سنة 450 هـ ما نصه: « وحُمل الخليفة إلى المشهد بمقابر قريش وقيل له: تبيت فيها، فامتنع وقال: هؤلاء العلويون الذين بها يُعادوني ».وفي غرق سنة 466 هـ ـ وكان بالِغَ الخطر ـ تَهدّم سُور المشهد، وتقضي العادة بتأثر ما يحيط بالمشهد من الدور بالماء، ولكننا لم نعرف تفصيله.
في القرن السادس
في فتنة 517 هـ جاء العلويون الساكنون حول المشهد إلى ديوان الخليفة يشكون ما أصابهم وأصاب المشهد، وهو الأمر الذي يدل على سكنى عدد كبير منهم هناك.وتأثرت بلدة المشهد الكاظمي بغرق سنة 554 هـ، ثمّ بغرق سنة 569 هـ، وكان الغرق الثاني شديداً جداً أدى إلى هدم البيوت وأكثر سور المشهد.والظاهر أن البلدة قد أصبحت مأهولة بالسكان بنحو يصح أن يقال فيه: « أهل مشهد موسى بن جعفر »، كما يقال: « أهل الكرخ » أو « أهل المختارة »، وكانوا كثيري العدد. ويروى أن نائب الوزارة ابن العطار أساء إليهم بقسوة بالغة وقطع أرزاقهم وبدد شملهم.
في القرن السابع
ولما حدث فيضان سنة 614 هـ أثَّر في المشهد ومدينته أثراً بالغاً، فقام الناصر لدين الله بتعمير ما خرّبه الماء كما شيَّد سوراً جديداً للمشهد.وعندما حدث فيضان سنة 646 هـ ـ وكان فظيعاً جداً ـ أثَّر في مدينة المشهد أثراً كبيراً، وكذلك فيضان سنة 654 هـ.
في الغزو المغولي
في الشهر الأول من عام 656 هـ حاصر الجيش المغولي بغداد، وتم احتلالها يوم الاثنين الثامن عشر من المحرم أو بعد ذلك بأيّام، ورافق هذا الاحتلال عدد من حوادث التخريب والتلف وضروب من المصائب والنكبات.وعلى الغرم من خروج بلدة المشهد الكاظمي عن خط زحف الجيش المحتل وعدم وجود أية قوة عسكرية عباسية فيها، فقد أُصيبت بشيء من ذلك الخراب العام، كما أصيب المشهد نفسه بالحريق. وسارع الوزير ابن العلقمي إلى الأمر بإصلاح ما تلف وتجديد ما اندثر من البلدة، كما قام صدر الوقوف شهاب الدين علي بن عبدالله بعمارة ما أتلفه الحريق في المشهد المطهر.
في القرن الثامن
ما أن أصل القرن الثامن حتّى كانت المدينة قد سارت أشواطاً في طريق تقدمها، عاجّةً بسكانها، صاخبةً بزوّارها القادمين إليها. يصفها حمد الله المستوفي ـ في أوائل القرن الثامن ـ فيقول: إنها مدينة صغيرة يبلغ طول محيطها آلاف خطوة، وأن سكانها ستة ألاف نسمة.
ويشير إليها صلاح الدين الصَّفَدي في أثناء حديثه عن بغداد ومحلاتها السبعة، فيعتبرها خامسةَ تلك المحلات وأنها مسوّرة.
أما الحنبلي فيذكر أنّها « محلة فيها خلق كثير، وعليها سور ».وبدأ استعمال لقب « كاظمي » في هذه الفترة، حيث جاء في ترجمة السيّد عبدالكريم آل طاووس ـ وهو من سكان الكاظمية في أواخر القرن السابع ـ أنّه « حلّي المنشأ، بغدادي التحصيل، كاظمي الخاتمة ».والمؤسف أن تظل معلوماتنا عن هذه الفترة وما طرأ على الكاظمية خلالها ضئيلة جداً، بل بحكم الاعدام.
في القرن العاشر
وفي أوائل القرن العاشر الهجري دخلت الكاظمية عهداً جديداً من الشأن والاستقلال الإداري الداخلي، وأصبحت مدينة لها كيانها ودورها في الشؤون العامة.
وبدأت الخطوة الأولى نحو هذا العهد الجديد في سنة 914 هـ ـ وهي سنة سيطرة الصفويين على العراق ـ فقد زار الشاه إسماعيل الصفوي الكاظمية وأمر بتشكيل إدارة خاصة بالبلدة ومحكمة شرعية يرأسها قاضٍ يحمل لقب « شيخ الإسلام »، وقد عيَّن الشيخ عبدالله قنديل بهذا المنصب. كما أمر الشاه بتشييد المشهد الكاظمي تشييداً رائعاً فخماً، وتعيين الرواتب لخدام المشهد والمسؤولين عنه.