ام كلثوم في بغداد
كنت قد كتبت فصلاً عن السيدة كوكب الشرق أم كلثوم ضمن مضامين كتابي «نسوة و رجال: ذكريات شاهد الرؤية».. وها أنا ذا، أكتب ثانية عن زيارتين قامت بهما أم كلثوم للعراق منذ زمن بعيد، يبدو واضحا أن للعراق مكانة خاصة في روح أم كلثوم ـ رحمها الله -
كانت الزيارة الأولى في بدايات شهرتها، وكانت الثانية في قمة مجدها.. كانت الزيارتان إبان العهد الملكي في العراق، وكانت كل من الزيارتين تشكل ظاهرة تاريخية عراقية. كانت الأولى في العام 2391، وكان قد حضر بغداد من قبلها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وغنى للشاعر أحمد شوقي «يا شراعا فوق دجلة يجرى» مادحا فيها ملك العراق فيصل الأول.. ثم وصلت أم كلثوم برا إلى بغدد برفقة فرقتها التي فيها الموسيقار محمد القصبجى، فاستقبلت استقبالا حافلا لا يمكن تخيله. وغنّت أجمل أغنياتها من القصائد التي كان قد لحنـــها لهــا الموسيقار الشـــيخ أبوالعلا محمد.. والملحن الطبيب أحمد صبري النجريدى ، والتقت في العراق بعدد من كبار الموسيقيين والمطربين وقراء المقام القدماء. كما غنّت لأول وآخر مرة في حياتها أغنية عراقية صعبة على إيقاع الجورجينة العراقي، يقول مطلعها: «قلبك صخر جلمود ما حنّ عليّا.. وأنا بقهر وبضيم والبيّا بيّا» التي كانت تغنيها المطربة العراقية الشهيرة سليمة باشا مراد، فأبدعت أم كلثوم فيها..
عدّت زيارتها الأولى، ظاهرة فنية واجتماعية وثقافية معا، إذ إنها أثارت قرائح الشعراء العراقيين، فنظموا القصائد، وكتبت المقالات في مدحها، وبقيت حديث المجتمع البغدادي لفترة طويلة، وهى تشّنف الآذان من خلال الكرامافون الذي كان قد انتشر في المقاهي والبيوتات البغدادية.. ولعل من أشهر الشعراء والأدباء الذين مدحوها : محمد رضا الشبيبى وجميل صدقي الزهاوى ومعروف الرصافى ومحمد بهجة الأثري وإبراهيم أدهم وغيرهم.. لقد حياها الزهاوى بقصيدة على مسرح الهلال يوم 15 نوفمبر 1932 بقوله :
الفن روض أنيق غير مسؤوم وأنت بلبله يا أم كلثوم
لقد حملت أم كلثوم معها ذكريات عطرة عن العراق الذي احتفى بها احتفاء لا يضاهى حكومة ونخبة وشعبا، كما وتوثقت علاقتها برجالات العراق، وكان فى مقدمتهم الأستاذ أرشد العمري أمين العاصمة.. وبعد مرور قرابة 14 سنة، ترسّخت علاقتها بالبيت الملكي الحاكم في العراق، وتوثقت عرى الصداقة بينها وبين الأميرة عابدية، ووصلت شهرة أم كلثوم إلى ذروتها على المستوى الشعبي العراقي.. وفى العام 1946 ، وجهّت إليها دعوة خاصة من الحكومة العراقية، وبالذات من قبل الوصي على العرش الأمير عبد الإله الذي كان يكن لأم كلثوم تقديرا كبيرا، كتب محرر مجلة الراديو المصرية قائلا : " استقلت نفحة الله للشرق أم كلثوم متن الطائرة في صباح 2 مايو / أيار قاصدة أرض ليلى لإحياء ليلة عيد ميلاد الملك الحبيب فيصل الثاني صاحب عرش العراق الشقيق. وقد كانت الحفاوة بأم كلثوم في العراق احتفاء بمصر وبسيدة الفن في مصر، كما كان سفر أم كلثوم لإحياء عيد مليك العراق رسالة عاطفية من القاهرة إلى بغداد حملتها أكرم سفيرة للفن المصري. وقد نزلت الطائرة بأم كلثوم في مطار الحبانية قبيل الظهر فوجدت في استقبالها ياور الوصي على عرش العراق الذي حياها باسم سموه الكريم ورافقها إلى العاصمة في إحدى السيارات الملكية حيث قصدت رأسا إلى القصر الملكي تقيد اسمها بدفتر التشريفات وهناك تشرفت بمقابلة جلالة الملكة الوالدة «عالية» وصاحبات السمو شقيقاتها الأميرات وشقيقها الأمير عبد الإله الوصي على العرش الذين غمروها بعطفهم ورعايتهم " .. ثم ذهبت أم كلثوم إلى فندق ريجنت الذي نزلت فيه ضيفة على الحكومة العراقية، وفى المساء ذهبت إلى الحفلة الساهرة الكبرى التي أقيمت بحديقة قصر الرحاب احتفاء بعيد ميلاد الملك الطفل فيصل الثاني، وكان أصغر ملك في العالم، إذا تجاوز عشر سنوات من عمره تلك الليلة «ولد 2 مايو 1935 وقتل 14 يونيو 1958». وقد حضره الملك الطفل برفقة خاله الوصي وكل الوزراء والوجهاء والأعيان والسفراء والقواد العسكريين والكل يلبسون الملابس الفورمال السوداء.. كانت أم كلثوم تجلس على الكرسي، وأخذ بعض المدعوين يقدم لها إعجابه الشديد بصوتها وأدائها وحفلاتها الشهيرة. وعندما بدت أم كلثوم على المسرح، استقبلت بالتصفيق الحار، وبدأت الفرقة الموسيقية تعزف موسيقى «يا ليلة العيد» التي أنشدتها في فيلم «دنانير» والذي عرض عام 1940 وهى من كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطى ، وحين ذكرت اسم فيصل الثاني قوبلت بعاصفة من التصفيق. كانت الحديقة قد لبست حللا زاهرة من الزينات ونسقت المصابيح الكهربائية حتى بدت كما تصفها أم كلثوم كأنها قطوف دانية من فاكهة الربيع. تفضل سمو الأمير عبد الإله بتقديم الآنسة أم كلثوم بنفسه إلى كبار المدعوين، ثم غنت أم كلثوم..فأرهفت لها الأسماع. غنت فسهر العراق كله ليسمعها إذ كانت الحفلة مذاعة في أرجاء العراق - كما يقول تقرير مجلة الراديو المصرية.
بعد استراحة قصيرة غنت «سلوا كئوس الطلا» على مدى ساعتين، وغنت «غنيلى شوى شوى»، وأغنية «وكل الأحبة اتنين اتنين» لقد صدحت ما ينوف على الثلاث ساعات، وهى تغنى أجمل وأصعب القصائد والأغاني وتقود الفرقة الموسيقية وتتنقل في عالم الأنغام من دون أي خطأ أو تحريف. وامتدت الحفلة حتى الساعة الثالثة صباحا.. وكانت الست وحدها نجمة الحفل حتى آخر الليل، وقد لوحظ أن الملك الطفل وخاله الوصي على عرشه قد تأخرا قليلا، إذ خرجا يطوفان أرجاء بغداد ليشهدا فرحة الناس بأم كـلثوم، فلـما عـادا قــال الأمــير عبد الإله : لو أنى وزعت على كل عراقي كيسا مملوءا بالذهب، لما استطعت أن أدخل هذا السرور على قلوب أهل العراق.
أصبح الصباح، فإذا بأم كلثوم فى ريجنت بالاس، مليكة الفن وجموع الشعب والهيئات الفنية والمعاهد بأعلامها تهتف لها ولمصر في طرقات بغداد والكبراء والعظماء ورجال الصحافة يتوافدون على الفندق لتحيتها. وقبيل الظهر اتصل بها القصر الملكي «تلفونيا»، لتجد الطفل فيصل الثاني على الخط يثنى عليها قائلا : " سّتي نحن في انتظارك على الغداء"!
وتناولت طعام الغداء على المائدة الملكية، حيث قال لها جلالة الملك: أنت كنت الليلة زينة أكثر مما سمعتك في الإسكندرية. وبعد ظهر اليوم نفسه، حضرت أم كلثوم حفل استقبال من قبل السيدة حرم الباشا نورى السعيد في دارها، حضرتها صفوة سيدات العراق، فما أن دخلت عليهن حتى قوبلت بعاصفة من التصفيق واحتفى بأم كلثوم.. حتى أذن ببدء الحفلة الساهرة التي أقامها وزير مصر المفوض في العراق بدار المفوضية المصرية، وشرفها الأمير والوزراء ورجال السلك السياسي ووجوه القوم، وقد أعد بدار المفوضية جناح خاص لجلالة الملكة الوالدة وصاحبات السمو أميرات العراق وكرائم العقيلات.
ذهبت أم كلثوم إلى دار المفوضية المصرية، وظلت تنتقل بين جناحي الرجال والسيدات ثم غنت لهم «سلوا قلبي» ثم «أهل الهوى» فأبدعت ما شاء لها الإبداع. وفى ختام الحفلة قلدها الأمير عبد الإله وسام الرافدين كما قدم لها باسم الملكة عالية عقدا فاخرا من اللؤلؤ بين تصفيق الحاضرين فتقبلتهما شاكرة وداعية للعراق وملكه وأهله. لقد أحيت أم كلثوم عدة حفلات خاصة لأعيان بغداد، واستمرت علاقة العراقيين قوية بأم كلثوم، إذ كانوا ينتظرون حفلتها الشهرية ليسهروا معها من خلال الراديو.. «نشرت ذلك جريدة كل شيء العراقية 1946»، كما واستمرت العلاقة قوية مع البيت الهاشمي الحاكم. تذكر الأميرة بديعة، وهى آخر من تبقى من تلك الأسرة التي نكبت عام 1958 عن بكرة أبيها، وكانت قد نجت من القتل..تقول : سافرنا إلى مصر، ونزلنا في مقر السفارة العراقية بالقاهرة، عند سفيرنا تحسين العسكري، كانت مصر جميلة تنسى زائرها همومه وأشجانه، وعدنا إلى بغداد، وفى السنة التالية قررنا الاصطياف في الإسكندرية، فأمر الملك فاروق بلدية المدينة الساحلية، أن تعد لملك العراق ساحلا على الشاطئ «بلاجا خاصا»، بقينا في الإسكندرية حتى أكتوبر 1944 وكانت ضيفتنا الدائمة والعزيزة علينا التي تشرب القهوة معنا يوميا على الساحل هي السيدة أم كلثوم، صديقة أختي الأميرة عابدية الشخصية ومطربتها المفضلة، إذ تتصل بها هاتفيا وتكلمها، سواء من بغداد أو من الإسكندرية وتتبادلان الرسائل والصور والأحاديث.
في فجر 14 يوليو 1958 استيقظ العالم على انقلاب عسكري ببغداد، ولحقت به ثورة شعبية عارمة أبيدت خلالها الأسرة المالكة كلها: الملك وخاله عبد الإله وجدته الملكة نفيسة وخالته الأمير عابدية وكل الحاشية والخدم.. تتابع الأميرة بديعة كلامها قائلة: «كان من المقرر أن تغنى أم كلثوم في حفلة زواج الملك فيصل الثاني عام 1958 وقد وعدتنا فعلا، غير أنه قتل قبل أن يزف إلى عروسه، ولم تسأل عنا أم كلثوم بعد مقتله، ولم تتابع أخبارنا بالرغم من أننا قضينا فترة من حياتنا في مصر بعد الانقلاب. ربما أتلمس لها الأعذار، في أنها لم تعزني بمقتل صديقتها أختي الأميرة عابدية، رغم أنها لا تستحق ذلك.." .
نعم يتلمس العراقيون لأم كلثوم الأعذار كونها واقعة تحت ضغوطات الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان عدوا للعائلة المالكة العراقية . كانت أم كلثوم قد غنّت ( أنشودة بغداد ) قديما للعراق ، ولكن بعد تغيير النظام الملكي ، فلقد غنت أم كلثوم لثورة العراق وبغداد العهد الجمهوري أحلى أغنياتها القومية مباركة التغيير الذي حصل في العراق عام 1958 من خلال «ثوار ثوار لآخر مدى» وقصيدة «بغداد يا قلعة الأسود يا كعبة المجد والخلود ».. الخ من الأغنيات التي كانت تصدح عبر الإذاعات ليل نهار، واتخذت الحكومات الجمهورية موسيقاها عزفا لتقديم الأخبار عبر الراديو والتلفزيون ردحا طويلا من الزمن ! وتلفت أم كلثوم النظر حقا، عندما تزور سوريا والسودان والمغرب وتونس والكويت وغيرها من البلدان العربية، ولكنها لم تعد لزيارة العراق أبدا طوال العهد الجمهوري الذي غنت لثواره من الضباط الأحرار.. وأنها لم تقتصر على مباركة ثورة 1958 ضد الملكية التي احتفت بها احتفاء عظيما، بل باركت أيضا انقلاب البعثيين على حكم العسكريين والزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963 فغنت لهم أيضا ! لقد كانت هناك أغنية أخرى للعراق غنتها أم كلثوم من تلحين الموسيقار رياض السنباطي يقول مطلعها :
شعب العراق الحر ثار وعلى العراق طلع النهار
أعتقد أن السيدة أم كلثوم - رحمها الله- لم تتنكر لجميل ملوك العراق، بقدر ما كانت خاضعة لظروف مصر الرئيس جمال عبدالناصر الذي اعتبرته رائدا وبطلا وغنت له.. كما كانت قد مدحت وغنت للملك فاروق من قبل ! ويعّلق احد المسؤولين العراقيين القدامى الذين شهدوا قوة العلاقة بين أم كلثوم والبيت الهاشمي الملكي الذي حكم العراق ، ومدى احترام ذلك البيت لها .. إنها طوال حياتها ، كانت تفخر بالأوسمة التي منحها إياها ملوك ورؤساء عرب ، ولكنها لم تذكر يوما وسام الرافدين العراقي الذي منحها إياه الأمير عبد الإله ، بعد أن صدر تشريع خاص يخولّه بمنحها لها ذلك الوسام كونها امرأة ، وكان يمنح للرجال فقط ! ويبدو أن أم كلثوم كانت تراعي ظروفها كاملة ، كي تحافظ على مكانتها قبل أية اعتبارات أخرى ! ولكن ينبغي أن اذكر للتاريخ إن حبّ العراقيين لأم كلثوم وصل إلى حد تأسيس مقاهي باسمها ، وأشهرها مقهى أم كلثوم الشهيرة بشارع الرشيد ببغداد التي استمرت عقودا من السنين لصاحبها السيد عبد المعين الموصلي الذي جمع ثروة نادرة من تسجيلات أم كلثوم الصوتية الكاملة ، ولا يضاهيه أي أرشيف غنائي لأم كلثوم أبدا ، ولا ندري ماذا حلّ بذلك الأرشيف النادر لأعمال كوكب الشرق أم كلثوم . رحم الله السيدة أم كلثوم، فلقد كانت كوكبا مضيئا وضيئا في عالمنا.. وكان دورها ناصعا في جمع الكلمة، وكانت مبدعة كل الإبداع.. وستبقى ذكراها وكل إبداعها ذخيرة حية على امتداد التاريخ؟
روز اليوسف
كنت قد كتبت فصلاً عن السيدة كوكب الشرق أم كلثوم ضمن مضامين كتابي «نسوة و رجال: ذكريات شاهد الرؤية».. وها أنا ذا، أكتب ثانية عن زيارتين قامت بهما أم كلثوم للعراق منذ زمن بعيد، يبدو واضحا أن للعراق مكانة خاصة في روح أم كلثوم ـ رحمها الله -
كانت الزيارة الأولى في بدايات شهرتها، وكانت الثانية في قمة مجدها.. كانت الزيارتان إبان العهد الملكي في العراق، وكانت كل من الزيارتين تشكل ظاهرة تاريخية عراقية. كانت الأولى في العام 2391، وكان قد حضر بغداد من قبلها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وغنى للشاعر أحمد شوقي «يا شراعا فوق دجلة يجرى» مادحا فيها ملك العراق فيصل الأول.. ثم وصلت أم كلثوم برا إلى بغدد برفقة فرقتها التي فيها الموسيقار محمد القصبجى، فاستقبلت استقبالا حافلا لا يمكن تخيله. وغنّت أجمل أغنياتها من القصائد التي كان قد لحنـــها لهــا الموسيقار الشـــيخ أبوالعلا محمد.. والملحن الطبيب أحمد صبري النجريدى ، والتقت في العراق بعدد من كبار الموسيقيين والمطربين وقراء المقام القدماء. كما غنّت لأول وآخر مرة في حياتها أغنية عراقية صعبة على إيقاع الجورجينة العراقي، يقول مطلعها: «قلبك صخر جلمود ما حنّ عليّا.. وأنا بقهر وبضيم والبيّا بيّا» التي كانت تغنيها المطربة العراقية الشهيرة سليمة باشا مراد، فأبدعت أم كلثوم فيها..
عدّت زيارتها الأولى، ظاهرة فنية واجتماعية وثقافية معا، إذ إنها أثارت قرائح الشعراء العراقيين، فنظموا القصائد، وكتبت المقالات في مدحها، وبقيت حديث المجتمع البغدادي لفترة طويلة، وهى تشّنف الآذان من خلال الكرامافون الذي كان قد انتشر في المقاهي والبيوتات البغدادية.. ولعل من أشهر الشعراء والأدباء الذين مدحوها : محمد رضا الشبيبى وجميل صدقي الزهاوى ومعروف الرصافى ومحمد بهجة الأثري وإبراهيم أدهم وغيرهم.. لقد حياها الزهاوى بقصيدة على مسرح الهلال يوم 15 نوفمبر 1932 بقوله :
الفن روض أنيق غير مسؤوم وأنت بلبله يا أم كلثوم
لقد حملت أم كلثوم معها ذكريات عطرة عن العراق الذي احتفى بها احتفاء لا يضاهى حكومة ونخبة وشعبا، كما وتوثقت علاقتها برجالات العراق، وكان فى مقدمتهم الأستاذ أرشد العمري أمين العاصمة.. وبعد مرور قرابة 14 سنة، ترسّخت علاقتها بالبيت الملكي الحاكم في العراق، وتوثقت عرى الصداقة بينها وبين الأميرة عابدية، ووصلت شهرة أم كلثوم إلى ذروتها على المستوى الشعبي العراقي.. وفى العام 1946 ، وجهّت إليها دعوة خاصة من الحكومة العراقية، وبالذات من قبل الوصي على العرش الأمير عبد الإله الذي كان يكن لأم كلثوم تقديرا كبيرا، كتب محرر مجلة الراديو المصرية قائلا : " استقلت نفحة الله للشرق أم كلثوم متن الطائرة في صباح 2 مايو / أيار قاصدة أرض ليلى لإحياء ليلة عيد ميلاد الملك الحبيب فيصل الثاني صاحب عرش العراق الشقيق. وقد كانت الحفاوة بأم كلثوم في العراق احتفاء بمصر وبسيدة الفن في مصر، كما كان سفر أم كلثوم لإحياء عيد مليك العراق رسالة عاطفية من القاهرة إلى بغداد حملتها أكرم سفيرة للفن المصري. وقد نزلت الطائرة بأم كلثوم في مطار الحبانية قبيل الظهر فوجدت في استقبالها ياور الوصي على عرش العراق الذي حياها باسم سموه الكريم ورافقها إلى العاصمة في إحدى السيارات الملكية حيث قصدت رأسا إلى القصر الملكي تقيد اسمها بدفتر التشريفات وهناك تشرفت بمقابلة جلالة الملكة الوالدة «عالية» وصاحبات السمو شقيقاتها الأميرات وشقيقها الأمير عبد الإله الوصي على العرش الذين غمروها بعطفهم ورعايتهم " .. ثم ذهبت أم كلثوم إلى فندق ريجنت الذي نزلت فيه ضيفة على الحكومة العراقية، وفى المساء ذهبت إلى الحفلة الساهرة الكبرى التي أقيمت بحديقة قصر الرحاب احتفاء بعيد ميلاد الملك الطفل فيصل الثاني، وكان أصغر ملك في العالم، إذا تجاوز عشر سنوات من عمره تلك الليلة «ولد 2 مايو 1935 وقتل 14 يونيو 1958». وقد حضره الملك الطفل برفقة خاله الوصي وكل الوزراء والوجهاء والأعيان والسفراء والقواد العسكريين والكل يلبسون الملابس الفورمال السوداء.. كانت أم كلثوم تجلس على الكرسي، وأخذ بعض المدعوين يقدم لها إعجابه الشديد بصوتها وأدائها وحفلاتها الشهيرة. وعندما بدت أم كلثوم على المسرح، استقبلت بالتصفيق الحار، وبدأت الفرقة الموسيقية تعزف موسيقى «يا ليلة العيد» التي أنشدتها في فيلم «دنانير» والذي عرض عام 1940 وهى من كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطى ، وحين ذكرت اسم فيصل الثاني قوبلت بعاصفة من التصفيق. كانت الحديقة قد لبست حللا زاهرة من الزينات ونسقت المصابيح الكهربائية حتى بدت كما تصفها أم كلثوم كأنها قطوف دانية من فاكهة الربيع. تفضل سمو الأمير عبد الإله بتقديم الآنسة أم كلثوم بنفسه إلى كبار المدعوين، ثم غنت أم كلثوم..فأرهفت لها الأسماع. غنت فسهر العراق كله ليسمعها إذ كانت الحفلة مذاعة في أرجاء العراق - كما يقول تقرير مجلة الراديو المصرية.
بعد استراحة قصيرة غنت «سلوا كئوس الطلا» على مدى ساعتين، وغنت «غنيلى شوى شوى»، وأغنية «وكل الأحبة اتنين اتنين» لقد صدحت ما ينوف على الثلاث ساعات، وهى تغنى أجمل وأصعب القصائد والأغاني وتقود الفرقة الموسيقية وتتنقل في عالم الأنغام من دون أي خطأ أو تحريف. وامتدت الحفلة حتى الساعة الثالثة صباحا.. وكانت الست وحدها نجمة الحفل حتى آخر الليل، وقد لوحظ أن الملك الطفل وخاله الوصي على عرشه قد تأخرا قليلا، إذ خرجا يطوفان أرجاء بغداد ليشهدا فرحة الناس بأم كـلثوم، فلـما عـادا قــال الأمــير عبد الإله : لو أنى وزعت على كل عراقي كيسا مملوءا بالذهب، لما استطعت أن أدخل هذا السرور على قلوب أهل العراق.
أصبح الصباح، فإذا بأم كلثوم فى ريجنت بالاس، مليكة الفن وجموع الشعب والهيئات الفنية والمعاهد بأعلامها تهتف لها ولمصر في طرقات بغداد والكبراء والعظماء ورجال الصحافة يتوافدون على الفندق لتحيتها. وقبيل الظهر اتصل بها القصر الملكي «تلفونيا»، لتجد الطفل فيصل الثاني على الخط يثنى عليها قائلا : " سّتي نحن في انتظارك على الغداء"!
وتناولت طعام الغداء على المائدة الملكية، حيث قال لها جلالة الملك: أنت كنت الليلة زينة أكثر مما سمعتك في الإسكندرية. وبعد ظهر اليوم نفسه، حضرت أم كلثوم حفل استقبال من قبل السيدة حرم الباشا نورى السعيد في دارها، حضرتها صفوة سيدات العراق، فما أن دخلت عليهن حتى قوبلت بعاصفة من التصفيق واحتفى بأم كلثوم.. حتى أذن ببدء الحفلة الساهرة التي أقامها وزير مصر المفوض في العراق بدار المفوضية المصرية، وشرفها الأمير والوزراء ورجال السلك السياسي ووجوه القوم، وقد أعد بدار المفوضية جناح خاص لجلالة الملكة الوالدة وصاحبات السمو أميرات العراق وكرائم العقيلات.
ذهبت أم كلثوم إلى دار المفوضية المصرية، وظلت تنتقل بين جناحي الرجال والسيدات ثم غنت لهم «سلوا قلبي» ثم «أهل الهوى» فأبدعت ما شاء لها الإبداع. وفى ختام الحفلة قلدها الأمير عبد الإله وسام الرافدين كما قدم لها باسم الملكة عالية عقدا فاخرا من اللؤلؤ بين تصفيق الحاضرين فتقبلتهما شاكرة وداعية للعراق وملكه وأهله. لقد أحيت أم كلثوم عدة حفلات خاصة لأعيان بغداد، واستمرت علاقة العراقيين قوية بأم كلثوم، إذ كانوا ينتظرون حفلتها الشهرية ليسهروا معها من خلال الراديو.. «نشرت ذلك جريدة كل شيء العراقية 1946»، كما واستمرت العلاقة قوية مع البيت الهاشمي الحاكم. تذكر الأميرة بديعة، وهى آخر من تبقى من تلك الأسرة التي نكبت عام 1958 عن بكرة أبيها، وكانت قد نجت من القتل..تقول : سافرنا إلى مصر، ونزلنا في مقر السفارة العراقية بالقاهرة، عند سفيرنا تحسين العسكري، كانت مصر جميلة تنسى زائرها همومه وأشجانه، وعدنا إلى بغداد، وفى السنة التالية قررنا الاصطياف في الإسكندرية، فأمر الملك فاروق بلدية المدينة الساحلية، أن تعد لملك العراق ساحلا على الشاطئ «بلاجا خاصا»، بقينا في الإسكندرية حتى أكتوبر 1944 وكانت ضيفتنا الدائمة والعزيزة علينا التي تشرب القهوة معنا يوميا على الساحل هي السيدة أم كلثوم، صديقة أختي الأميرة عابدية الشخصية ومطربتها المفضلة، إذ تتصل بها هاتفيا وتكلمها، سواء من بغداد أو من الإسكندرية وتتبادلان الرسائل والصور والأحاديث.
في فجر 14 يوليو 1958 استيقظ العالم على انقلاب عسكري ببغداد، ولحقت به ثورة شعبية عارمة أبيدت خلالها الأسرة المالكة كلها: الملك وخاله عبد الإله وجدته الملكة نفيسة وخالته الأمير عابدية وكل الحاشية والخدم.. تتابع الأميرة بديعة كلامها قائلة: «كان من المقرر أن تغنى أم كلثوم في حفلة زواج الملك فيصل الثاني عام 1958 وقد وعدتنا فعلا، غير أنه قتل قبل أن يزف إلى عروسه، ولم تسأل عنا أم كلثوم بعد مقتله، ولم تتابع أخبارنا بالرغم من أننا قضينا فترة من حياتنا في مصر بعد الانقلاب. ربما أتلمس لها الأعذار، في أنها لم تعزني بمقتل صديقتها أختي الأميرة عابدية، رغم أنها لا تستحق ذلك.." .
نعم يتلمس العراقيون لأم كلثوم الأعذار كونها واقعة تحت ضغوطات الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان عدوا للعائلة المالكة العراقية . كانت أم كلثوم قد غنّت ( أنشودة بغداد ) قديما للعراق ، ولكن بعد تغيير النظام الملكي ، فلقد غنت أم كلثوم لثورة العراق وبغداد العهد الجمهوري أحلى أغنياتها القومية مباركة التغيير الذي حصل في العراق عام 1958 من خلال «ثوار ثوار لآخر مدى» وقصيدة «بغداد يا قلعة الأسود يا كعبة المجد والخلود ».. الخ من الأغنيات التي كانت تصدح عبر الإذاعات ليل نهار، واتخذت الحكومات الجمهورية موسيقاها عزفا لتقديم الأخبار عبر الراديو والتلفزيون ردحا طويلا من الزمن ! وتلفت أم كلثوم النظر حقا، عندما تزور سوريا والسودان والمغرب وتونس والكويت وغيرها من البلدان العربية، ولكنها لم تعد لزيارة العراق أبدا طوال العهد الجمهوري الذي غنت لثواره من الضباط الأحرار.. وأنها لم تقتصر على مباركة ثورة 1958 ضد الملكية التي احتفت بها احتفاء عظيما، بل باركت أيضا انقلاب البعثيين على حكم العسكريين والزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963 فغنت لهم أيضا ! لقد كانت هناك أغنية أخرى للعراق غنتها أم كلثوم من تلحين الموسيقار رياض السنباطي يقول مطلعها :
شعب العراق الحر ثار وعلى العراق طلع النهار
أعتقد أن السيدة أم كلثوم - رحمها الله- لم تتنكر لجميل ملوك العراق، بقدر ما كانت خاضعة لظروف مصر الرئيس جمال عبدالناصر الذي اعتبرته رائدا وبطلا وغنت له.. كما كانت قد مدحت وغنت للملك فاروق من قبل ! ويعّلق احد المسؤولين العراقيين القدامى الذين شهدوا قوة العلاقة بين أم كلثوم والبيت الهاشمي الملكي الذي حكم العراق ، ومدى احترام ذلك البيت لها .. إنها طوال حياتها ، كانت تفخر بالأوسمة التي منحها إياها ملوك ورؤساء عرب ، ولكنها لم تذكر يوما وسام الرافدين العراقي الذي منحها إياه الأمير عبد الإله ، بعد أن صدر تشريع خاص يخولّه بمنحها لها ذلك الوسام كونها امرأة ، وكان يمنح للرجال فقط ! ويبدو أن أم كلثوم كانت تراعي ظروفها كاملة ، كي تحافظ على مكانتها قبل أية اعتبارات أخرى ! ولكن ينبغي أن اذكر للتاريخ إن حبّ العراقيين لأم كلثوم وصل إلى حد تأسيس مقاهي باسمها ، وأشهرها مقهى أم كلثوم الشهيرة بشارع الرشيد ببغداد التي استمرت عقودا من السنين لصاحبها السيد عبد المعين الموصلي الذي جمع ثروة نادرة من تسجيلات أم كلثوم الصوتية الكاملة ، ولا يضاهيه أي أرشيف غنائي لأم كلثوم أبدا ، ولا ندري ماذا حلّ بذلك الأرشيف النادر لأعمال كوكب الشرق أم كلثوم . رحم الله السيدة أم كلثوم، فلقد كانت كوكبا مضيئا وضيئا في عالمنا.. وكان دورها ناصعا في جمع الكلمة، وكانت مبدعة كل الإبداع.. وستبقى ذكراها وكل إبداعها ذخيرة حية على امتداد التاريخ؟
روز اليوسف